سلمي قاسم جوده
سلمي قاسم جوده


لحظة وعى

نادى السيارات.. وغواية النوستالجيا

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 07 فبراير 2021 - 02:57 م

سلمي قاسم جوده: تكتب

الليالى الشتائية بزرقتها المضوية المرصعة بالنجوم السارحة.. الهائمة تحاكى المعطف المهدل يتدثر به الوجود.. فى قلب الليل والصقيع يُبعث الحنين المشبع بالنشوة والأسى.. نوستالجيا تستدعى ذاكرة الليل.. الأمكنة والأزمنة.. المكان يبدو كزجاجة عطر يسيل منه الزمن بحكاياه، أشخاصه وذاكرة الحواس الخاصة به.. وسط البلد الذى استعاد  ألقه ورونق الأيام الخوالى، هاهو شارع قصر النيل، البناية العريقة حيث نادى السيارات القابع هناك منذ ثلاثينيات القرن المنصرم يكتنز المجد، الجمال وصفوة أهل الفكر والمجتمع أى "الإليت".. أكاد أرتشف رحيق الطفولة، المراهقة والنضج.. النجوم فى السماء والنجوم على الأرض.. هناك أحمد رجب، د.يوسف إدريس، فتحى غانم، يوسف السباعى، صالح جودت، آل الحمامصي، موسى صبرى، د. فؤاد رياض، فاتن حمامة، دنيا سخية الفتنة والرقى الآن تداهمنى كلمات نجيب  محفوظ فى "حضرة المحترم"، "إن الله خلق النجوم الجميلة ليحرضنا على النظر إلى أعلى.. وأن المأساة أنها ستطل يوما من عليائها فلا تجد لنا من أثر".

سيف واغلى لوحة العشاء فى المرسم

الهواء البارد  يتسلل عبر النوافذ فى حجرة أمى البحرية، الشمس الشتائية واهنة، القط مازال يغرق فى النوم العميق، الثوب الوردى القطيفة مسجى على الكرسى وأمى تهاتف حسن لحجز الطاولة لسهرة الليلة فى نادى السيارات.. تكلم "المتر" عيسى أشهر شخصيات النادى.. رؤيته ستحيلك دوما إلى مصر الملكية، أسمعها تملى عليه قائمة العشاء.. جمبرى كوكتيل وسمك على الطريقة اليونانية وحلوى "البيش ميلبا Peche melba هى عبارة عن شرائح الخوخ المغموس فى الشربات مع آيس كريم الفانيليا والكريم شانتييه.. والطريف أن هذه الحلوى صنعها طاهٍ فرنسى شهير كان مولعا بمطربة أسمها هيلين ميلبا فأبدع من أجلها هذا الصنف الذى يصنع أحيانا بالفراولة، وفى مصر أضيفت ثمار المانجو، أما المتر عيسى فكان يبدو دوما على حافة الابتسام والخروج من بوابة قصر الملكى وأذكره منذ مراهقتى يروى لى عن ذكرياته مع الملك فاروق، يبدو كل ليلة فى ذروة الشياكة ببدلته السوداء والقميص الناصع البياض، فى بعض الأحيان كانت أمى تطلب منه أم على فهى رائعة هناك.. التهيؤ لسهرة المساء فى النادى كان فى حد ذاته متعة، الكوافير، طقوس التبرج، الدوار المسكر للعطور الخاصة بأمى أربيج، شانيل وديوريسمو، أحمد رجب المتفائل المكتئب، فيلسوف الشعب جسد بهجة الأسى لعشرات السنين، الساخر، المتأمل، العاشق، لكافكا، هو من برج العقرب، فى الإسكندرية جذوره تلك المدينة الكوزموبوليتانية التى كانت، فهى عاصمة الحنين، كان يحكى لى دوما بخفة ظله الساحرة كيف فى شبابه كان يصعد إلى وسائل المواصلات بالكارنيه، الذى يضع عليه صورة الممثل الشهير ريكاردو دى مونتلبان، فلقد كان التشابه بينهما يرقى إلى حد التطابق وهو يريد أن يضحك وأن يداعب الدنيا ويلاطفها.. أراه فى الصباح أدلف إلى مكتبه يفتح لى محمود الساعى الباب الذى يغلقه بالمفتاح على الأستاذ من الخارج، يتصفح الجرائد نتكلم فى الحياة، الأدب والفن حتى يهل الرائع مصطفى حسين فى الثانية عشرة.. أما إذا تأخر عن الموعد المعهود فيقطب أحمد رجب جبينه ويقول حتدفع ثمن تأخيرك الذى سيصب فى خزينة ليلة القدر، وهكذا تزول وتتلاشى الابتسامة عن ملامح أحمد رجب فى اللحظة التى يبدأ فيها العمل مع مصطفى حسين، ولسوف تدهش عند تبدل الحال والتجهم والعبوس اللذين يكدران الملامح بينما المفكر والفنان يبدعان ما سوف يرسم الابتسامة المتأصلة على وجوه وفى أفئدة عشرات الملايين.. فى المساء نلتقى، أحمد رجب ينضم للطاولة ناس كثر، القاعة خافتة الأضواء، يكسو الحائط الخشب الداكن والمرايا المتعددة فى الركن الأخير للحجرة الفسيحة وملحق بها صالة الطعام، أمى وأحمد رجب يستدعيان ذكريات لم أشهدها فى حلوان مع عبدالحليم حافظ وكمال الطويل وكيف كانت الحياة حلوة، كأس وردية الفوران، أسمع الحكايا وأنا شبه مسحورة، مخيلتى تسافر، تحلق، تهيم فى كل ما كان وما لم يكن، مصطفى بك أمين الأب الروحى للصحافة المصرية يقول لى عن أحمد  رجب: هو العبقري، السابق لعصره، نعم هو تجاوز زمانه بأسلوبه التلغرافى والمستبق لتويتر، العميق ببساطة، أسترجع مطرب الأخبار وكأنه البازغ من شخصية حسن أبوالروس وعلى صبرى  فى بداية ونهاية لنجيب محفوظ.. القاعة الشتائية تبدو مصمتة، الخطوات تغوص فى المخمل، رنين الكئوس، أصداء الضحكات، الكلمات المجوهرة "للانتليجنتسيا" صفوة أهل  الفكر والثقافة، الأجواء  الخلابة حيث تجليات الجمال "الأناقة  ورحيق المعرفة المهيمن على المكان، أتمنى أن أسترجع كل ماشرد من أحداث، تفاصيل وذكريات بفعل مطرقة الزمن كل مامضى يبدو أقرب  إلى الحلم بكل ارتعاشاته وتشظيه.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة