يوسف السباعي
يوسف السباعي


«جبرتي العصر».. يوسف السباعي تأثر بوفاة والده وتنبأ بحادثة اغتياله

نادية البنا

الخميس، 18 فبراير 2021 - 11:06 م

في صباح الثامن عشر من فبراير عام 1978 تحرَّك يوسف السباعي، الأديب والأمين العام لمنظمة التضامن الإفريقي الآسيوي آنذاك، من الطابق الخامس بأحد فنادق قبرص إلى الطابق الأرضي لحضور أحد المؤتمرات.

وحين انتهى المؤتمر وقف السباعي قليلًا بجانب القاعة بعد أن استوقفته إحدى المجلات ليلقى مصرعه بعد دقائق بعد أن تلقَّى في رأسه 3 رصاصات، وبذلك أسدل الستار على حياة «جبرتي العصر»، كما أطلق عليه نجيب محفوظ، التي لم تكن تقل إثارة عن حادثة موته.

اقرأ أيضا .. كبار الشعراء في أمسية شعرية بـ«المجلس الأعلى للثقافة»

يوسف محمد السباعي، ذلك الشخص الذي ما أن تعرفه فإنك «إما أن تحبه أو تحبه جدًا»، كما وصفه أنيس منصور بإحدى مقالاته، وهو «أمهر أبناء جيله في فنّ القصة» كما وصفه طه حسين، وهو أيضًا ذلك الكاتب صاحب الأسلوب السهل الساخر الذي يفيض عذوبة، ولكن أنَّى لكاتب أن يتحدَّث عن الموت في كل أعماله تقريبًا بأسلوبٍ سهل ساخر عذب، ويستطيع في الوقت نفسه أن يتجنَّب أسلوب القتامة والخوف اللذين يحملهما الموت معه؟ ولماذا يشغل الموت القاتم الكئيب ذلك الرجل الضاحك الساخر الذي بصق على دنيانا قائلًا: «بصقة على دنياكم أيها التَّعِسون المساكين.. المتخبطون في حلكاتها.. الضالون في دياجيرها.. المتعللون بباطلها وسرابها … بصقة على دنياكم فإني مغادرها غير آسف ولا نادم.. بصقة عليها فإني أكرهها.. إنها دنيا هاوية».

«السباعي» تنبأ بموته

في عام 1948 نشر يوسف السباعي مجموعة قصصية بعنوان «يا أمة ضحكت» تضمنت قصة قصيرة عنوانها «بصقة على دنياكم»، هذه القصة التي نُشرت قبل رحيل الكاتب بـ30 عامًا، تتحدث عن صبي يعيش بأحد الأحياء الشعبية، شديد الولع بسلاح الفرسان في الجيش، ولكنه يصبح صحفيًا شهيرًا، ويعين وزيرًا، ثم رئيسًا للوزراء، إلى أن يتم اغتياله، ويُترك على سلالم الوزارة حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.

كان السباعي يتحدث عن نفسه في هذه القصة؛ فهو الصبي الصغير الذي نشأ بحي السيدة زينب بالقاهرة، وهو المولع بسلاح الفرسان، والذي يلتحق فيما بعد بالكلية الحربية، ولكن المثير للدهشة حقًا هو أنه قد تنبأ بأنه سيصبح وزيرًا، وأنه سيتم اغتياله، بل سيتم تركه حتى ينزف دمه وتفيض روحه، تمامًا كما حدث معه في واقعة اغتياله، فقد منع قتلته أي شخص من الاقتراب منه أو إسعافه؛ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وليست هذه هي المرة الوحيدة التي تنبأ فيها يوسف السباعي بحادثة اغتياله؛ فهو قد كتب أيضًا في روايته «طائر بين المحيطين» عن صحفي يقضي حياته متنقلًا بين البلدان المختلفة لحضور الندوات والمؤتمرات، وقال على لسان هذا الصحفي إنه يشعر بأن الصحافة سوف تنشر خبر موته لاقترانه بحادثة مثيرة، لقد كان بين الموت وبين السباعي خطوة واحدة، لم يظن الأخير أنه قادر على المبادرة بها، فأخذ الموت خطوته الأخيرة نحوه في الثامن عشر من فبراير عام 1978.

والده

وقف يوسف الصغير مرتاعًا على باب غرفة والده المسجَّى على فراشه وحوله الأطباء، لقد مرض الوالد الممتلئ حيوية ونشاطًا فجأة، ورقد الرجل الذي ملأ دنيا ولده الصغير حبًا على فراشه بلا حراك.

كان لمحمد السباعي تأثير قوي على ابنه الذي افتتن به ورآه مثلًا أعلى؛ فهو الأب الحنون المرح الذي احتضنه وقتما رسب هو ونجح أخوه، فلم يبارك لأخيه نجاحه، بل توجه نحو يوسف واحتضنه قائلًا: «الناجح تكفيه فرحة النجاح، أما الراسب فهو أحق بالعزاء»، وهو الذي كان يأخذ أمور الحياة مأخذًا سهلًا؛ فحين كانت تقوم زوجته بحبس أبنائها في غرفتهم حتى يذاكروا؛ فكان الأب يأتي بسلم خشبي، ويصعد عليه ليكلم أولاده من شراعة الباب ويضاحكهم.

لم يكن محمد السباعي مجرد أب حنون فقط، بل كان أديبًا ومترجمًا واسع الثقافة، أورث ابنه الصغير شغفه بالقراءة، فكان الصغير يرى شخص أبيه في كل ما يقرأ، سواء كان مؤلفًا أو مُترجمًا، كما أن آراء أبيه النقدية والأدبية قد أسهمت إلى حد كبير في إنتاجه الأدبي، وإن كان لم يحافظ على لغة والده المنمقة الرصينة، واتجه إلى الكتابة باللغة العامية.

وهكذا لم يكن يوسف الصغير يتخيل أن هذا الوالد من الممكن أن يختفي فجأة من حياته، حتى أنه لم يكن يريد أن يصدق أنه قد ذهب وتركهم إلى الأبد، فكان يتخيل أباه حيًا، ويتمثله في أحلامه، وحتى في يقظته، ويحاوره، ويسأله عن شئون الدنيا أحيانًا، وعن شئون الآخرة أحيانًا أخرى.

ويقول يوسف السباعي واصفًا شعوره عند وفاة والده: «كان لموت أبي تأثير لا حدود له علي، وأنا الصبي ابن الرابعة عشر، وكانت هذه أول مرة أرى فيها الموت! ومازلت بالرغم من السنين أذكر الصورة جيدًا، اختطف أبي خلال أيام قليلة، رأيته وهو راقد على الفراش مستسلمًا لكمادات الثلج، ورأيته وهو يموت! يأخذ شهيقًا، ثم زفيرًا، بضع مرات.. ثم شهيقًا بلا زفير، ثم انهمر الصراخ وأحاطت بي الدموع من كل جانب كالفيضان».

أسلوبه في الكتابة

على الرغم من تأثر يوسف السباعي بكتابات والده الراحل، إلا أنه لم يستطع أن يعتمد نفس أسلوبه في الكتابة؛ إذ إن أسلوب محمد السباعي المنمق الرصين لم يكن يتفق وطبيعة ابنه كثيرًا؛ فيقول «أول كاتب عربي أثر علي هو أبي، وكان أثره واضحًا في محاولاتي الأولى من ناحية اللغة المنمقة التي لم تكن تحتملها طبيعتي، فقد كنت أُجهد فيه وما لبثت أن تخلصت منه»، ولذلك اتجه السباعي الابن للأسلوب الساخر، وكانت العامية تفرض نفسها في كثير من أعماله.


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة