عبدالله البقالى نقيب الصحفيين المغاربة
عبدالله البقالى نقيب الصحفيين المغاربة


حديث الأسبوع

حينما اختلت الموازين.. حضرت التفاهة والتافهون

الأخبار

السبت، 20 فبراير 2021 - 07:35 م

بقدر ما كانت جائحة كورونا كارثة انسانية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فإنها بنفس القدر عرت عن حقائق ومعطيات خطيرة تتعلق بالتباين الكبير فى تقدير الوظائف والأدوار التى يقوم بها ويؤديها الفرد والجماعات داخل المجتمعات. لقد نجح الوباء فى إحداث رجات عميقة فيما كنا نعتقده حقائق مسلما بها. يتعلق الأمر بالتحديد بمكانة العلوم فى الحياة البشرية، وفى القيمة التى يخص بها المجتمع العلماء والباحثين والخبراء فى مختلف التقنيات المرتبطة بالعلوم، وما إذا كانت هذه القيمة لائقة ومناسبة لمكانة وأدوار هذه الفئة من الناس.

الجميع احتمى بنفسه فى المخابئ والمعازل خوفا من ملاحقة الفيروس اللعين له، والملايين من الأشخاص فقدوا الحياة لأن التدابير الاحترازية لم تمنع الوباء من الوصول إليهم، وسادت أجواء الخوف والقلق على مصير ومستقبل الإنسانية، وإلى اليوم لا أحد يملك جوابا مقنعا عن السؤال المركزى الذى يتردد فى جميع المجالس، ويشغل جميع الأذهان، حول الموعد المحتمل للقضاء على هذا العدو الفتاك. ولم تنفع القوة العسكرية ولا الاقتصادية فى التصدى لهذا الوافد الثقيل، ولم تجد نفعا الشهرة ومراكمة الثروات فى تعبئة الناس للمواجهة. وحدها العلوم عبرت عن جاهزيتها، ووحدهم العلماء والخبراء اقتحموا ساحة المواجهة للبحث عن سلاح مدمر يقضى على هذا العدو الشرس.

وتأكد واضحاً أن مستقبل البشرية جمعاء أضحى متوقفا على العلوم ورهينا بقدرة العلماء على إخضاع العلوم استجابة للانتظارات الجديدة ولمتطلبات الأزمات الطارئة التى يتوقع أن تستجد فى كل لحظة وحين. وهذه حقيقة أضحت تفرض نفسها وتستوجب القيام بمراجعات عميقة جدا فى تصنيف الأولويات فى السياسات العمومية، وفى ترتيب تقييم الأدوار المنجزة داخل المجتمعات. دعنا نستدل على ما نقول بحجج ذات دلالات بليغة جدا. فتقدير المجتمع لفئة ما يترجم بالقيمة الاجتماعية والمادية التى يوليها المجتمع، ومن هذا المنطلق يحق لنا التساؤل عن المكانة الاجتماعية التى يوجد عليها العلماء والخبراء والكفاءات المعرفية التى أصبح وجودها ضروريا لاستمرار الحياة، إننا نتحدث فى هذا الشأن بالتحديد عما يحصل عليه هؤلاء فى مختلف التخصصات العلمية والتقنية من عائدات مالية مقارنة مع أشخاص آخرين تقتصر أدوارهم على صناعة الفرجة وما يترتب عنها من متعة عابرة فى الزمان وفى المكان.

الجواب جاءنا مما كشف عنه موقع )بيزنس إنسايدر( الأمريكى الذى يؤكد أن مدرسى علوم الغلاف الجوى والأرض والبحر والفضاء مثلا بلغ متوسط راتبهم السنوى سنة 2018 نحو 102 ألف دولار. وأن متوسط أجور المهندسين الصناعيين يتجاوز 90 ألف دولار بقليل سنويا، فى حين لا يتجاوز راتب علماء الجيولوجيا حوالى 108 آلاف دولار سنويا، بيد أن دخل مهندسى البيئة يقف عند سقف 92 ألف دولار سنويا، وأن متوسط راتب علماء الكيمياء والفيزياء الحيوية بلغ حوالى 106 آلاف دولار سنويا، ويقترب منهم علماء الفلك بدخل يقدر بـ111 ألف دولار، وعلماء الرياضيات بحوالى 105 آلاف دولار. وهكذا لا نحتاج إلى كبير جهد لاكتشاف أن أكبر العلماء فى أدق التخصصات لا يمكن أن يتجاوز دخله السنوى 120 ألف دولار فى أقصى الحالات. وموازاة مع ذلك نشرت أوساط رياضية متخصصة لائحة بأسماء عشرة لاعبى كرة القدم الأكثر دخلا فى عالم المستديرة، وهنا تتجلى الفوارق الشاسعة جدا فى الدخل المالى بين فئة من الأشخاص تتوقف عليهم حياة البشرية وفئة أخرى تحقق أهدافا عاطفية ظرفية لا تكتسى أية أهمية فى حماية الحياة.

فقد كشفت هذه الأوساط أن الدخل السنوى للعشرة الأوائل فى كرة القدم يصل إلى نصف مليار دولار سنويا، مما يتجاوز سقف ومعدل دخل عشرات المئات من العلماء والخبراء فى العالم، وبما يتجاوز بكثير الميزانيات الفرعية الخاصة بالحماية الاجتماعية من صحة وتعليم ورعاية اجتماعية بالنسبة لدول عديدة. وفى التفاصيل نلاحظ أن الدخل المتحصل من الراتب والتعويضات عن الانتصارات بالنسبة للاعب واحد فى حجم نجم فريق برشلونة ميسى مثلا يصل إلى 126 مليون دولار سنويا، أى ما يمثل ضعف ما يحصل عليه أكبر العلماء فى التخصصات الدقيقة ألف مرة، فى حين يصل الدخل المماثل بالنسبة للاعب واحد فى حجم النجم البرتغالى رونالدو 117 مليون دولار، فى حين يبلغ دخل النجم البرازيلى نيمار ما قيمته 96 مليون دولار، وكيليان مبابى الفرنسى 42 مليون دولار، وهذه مداخيل لا تشمل عائدات الإشهار التى لا يمكن تحديد مبالغها.

المؤسف أن هذا التباين الصارخ فى المداخيل المالية بين فئات مختلفة تقوم كل واحدة منها بأدوار معينة، لكنها تتفاوت من حيث الأهمية والتأثير، تمثل عنوانا بارزا لزمن التفاهة الذى يسود فى نظام عالمى مختل، زمن تسيدت فيه التفاهة واحتل فيه التافهون صدارة المجتمعات، وسادت فيه الثقافة الاستهلاكية التى تطغى على السلوك البشرى بفعل تأثيرات الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، وأضحى فيه الإعلام بمختلف فروعه وأشكاله وأجناسه آلة رئيسية للتسويق والدعاية وبالتالى فى صناعة التفاهة.

هذا الزمن تحدثت عنه العديد من المؤلفات التى أضحت تمثل مراجع مهمة لفهم طبيعة وخصوصية الزمن الرديء الذى تحياه البشرية من قبيل كتاب )حضارة الفرجة( لصاحبه فارغاس يوس الحائز على جائزة نوبل للآداب، ومؤلف )تدهور الحضارة الغربية( للفيلسوف أوزوالد إشبنغر، وكتاب )مجتمع الفرجة، الانسان المعاصر فى مجتمع الاستعراض ( لكاتبه الفرنسى جى ديبوز، وكتاب )الانسان العاري( لمؤلفيه مارك دوغان وكريستوف لابي، وهى جميعها مؤلفات كشفت قبل جائحة كورونا اللعينة أن النظم التى كانت تفرز بصفة منطقية النخب الفكرية والمعرفية والسياسية والفنية والثقافية داخل المجتمعات تعرضت إلى هزات عنيفة، وبالتالى فإن الطرق المعتادة فى إفراز هذه النخب تعرضت إلى اجتياح من طرف أنماط وأشكال التفاهة، وبالتالى لم يعد غريبا أن يحتل التافهون من صناع الفرجة العابرة، ومن مستعرضى العضلات والأجسام والأصوات مواقع الصدارة فى اهتمامات المجتمعات، بما يرافق ذلك من رفاهية وبذخ فى أوضاع اجتماعية ومادية استثنائية، فى حين توارى العلماء والمفكرون والفلاسفة والأدباء إلى الخلف .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة