رجائي عطية
رجائي عطية


مدارات

أقدار !

رجائي عطية

الجمعة، 05 مارس 2021 - 08:07 م

فى 17 سبتمبر 1959 ، تقدمت إلى منطقة تجنيد الإسكندرية، يحدونى الأمل فى أن أعود إلى مكتب أبى بشبين الكوم لأستأنف معه العمل بالمحاماة التى بدأت أولى خطواتها منذ حلف اليمين أمام المستشار محمود عبد اللطيف ـ يرحمه الله،  فى 19/8/1959.. ولأنه سبق أن أجريت فى الأربعينيات عملية فتق إربى، واستجد آخر فى الناحية المقابلة، ارتأى الدكتور الفاحص الأول بالقومسيون الطبى أنى غير لائق للخدمة العسكرية.. ومكثت فى انتظار تصديق رئيس القومسيون قرابة ثلاث ساعات طفق الأمل يداعبنى فيها أن ألحق بديزل العصارى إلى طنطا، ومنها إلى شبين الكوم.. ولكن رئيس القومسيون أشر بأننى لائق، وعليه انتقلت فى غمضة عين من القومسيون الطبى إلى معسكر الاستقبال بذات معسكرات مصطفى باشا بالإسكندرية. 

    كنا دفعة من المؤهلات العليا.. التقانا يومها ضابط برتبة مقدم، دَفَعه إشفاقه علينا من صدمة الانتقال السريع من الحياة المدنية إلى الخدمة العسكرية الشاقة بأوامرها الصارمة، إلى أن ينصحنا ونحن جلوس أمامه على الأرض، بأن ننسى شهاداتنا على الباب قبل دخول المعسكرات.. فحضورها النفسى سيجعل الاستجابة للأوامر العسكرية ومصدريها عملية عسيرة إذا ما ظلت الأمور محكومة فى داخلنا بفوارق الشهادات!

    وسرعان ما أدركت حكمة نصيحته.. فقد تسلمنا بعد دقائق رقيب جمعنا حوله فى صورة مربع ناقص ضلع، وأمام أكوام من المهمات التى كان علينا أن نتسلمها لنخلع الزى المدنى ونرتديها.. فجعل يسلمنا صنفًا صنفًا وينادى: ويتمم على كل عسكرى مفترضًا أنه لا يفقه شيئًا!! ظللنا على هذه الحال نحو ساعتين حتى فرغنا من الاستلام وملء "المخلاة"  بالملابس العسكرية الجديدة التى كان لابد من تقييفها لتناسب مقاس وطول كل منا.. كان الغروب قد زحف حينما استطعت أن أستأذن من الرقيب عزازى ليسمح لى بالمبيت بالخارج لصباح اليوم التالى الذى كان علينا أن نسافر فيه بالقطار لترحيلنا إلى منطقة تجنيد القاهرة.

بدا لى يومها أننى قد سقطت من شاهق.. كنت قد خطبت من 30 أكتوبر 1958 أثناء الليسانس، تداعبنى آمال عريضة فى سرعة التهيؤ لإتمام الزواج بعد أن جاءت الأيام الأولى مبشرة فى المحاماة إلى جوار أبى الذى كان ـ رحمه الله ـ واحدًا من عظمائها. تخرج عام 1925 منذ ذات الكلية التى تخرجت فيها إبان أن كان اسمها مدرسة الحقوق الملكية.. استقبلنى ـ رحمه الله ـ واستقبلتنى المحاماة بترحاب، واقترب الأمل فى عقد القران.. ثم إذ بى فجأة جندى مستجد، يرتدى "أوفرأول" مهرول يحتاج إلى تقييف كبير بلغة العسكر ، وحذاء بيادة ثقيل.. أقف فى طابور صباح 18/9/1959 أمام الرقيب عزازى ليقودنا من معسكرات  مصطفى باشا إلى محطة سيدى جابر يحمل كل منا "مخلاته" سيرًا على الأقدام التى جعلت تدق على الأسفلت، تطالعنا العيون الفضولة من على المقاهى والأفريز، وأخرى تطل علينا من شرفات ونوافذ المنازل المصطفة على جانبى الشارع..

على محطة سيدى جابر ، جلس كل منا على "مخلاته".. ومكثنا نحو ساعة ونصف قبل أن نركب درجة ثالثة فى القطار القشاش الذى يقف فى جميع المراكز، حتى وصلنا إلى محطة باب الحديد نحو الخامسة، ومنها إلى قطار آخر من محطة كوبرى الليمون.. أمضى مع رفاق الجندية رافعين على الأكتاف "مخلاة" كل منا، مارين على الأقدام فى ذات الميدان الذى سبق أن شاهد عياقة الشباب التى كنا نتخايل بها أيام الدراسة..

ولكن فى محطة النزول بالزيتون كانت المفاجأة الأكبر.. لم يجد الرقيب عزازى اللوارى التى كان مفروضًا أن تقلنا من المحطة إلى منطقة التجنيد التى تبعد عدة كيلومترات.. لم يكن هناك بد من أن نقطعها مشيا فى طابور حاملين مهماتنا ننوء بوزنها وبثقل الأحذية البيادة التى لم نتعودها.. حتى استقر بنا المقام بمعسكر استقبال القاهرة ليبدأ الطائر رحلة جديدة استمرت فى القوات المسلحة والقضاء العسكرى ستة عشر عامًا مليئة بالأحداث والذكريات قبل أن يعود الطائر إلى المحاماة التى عشقها وعشقته وأمضى فيها عمره! 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة