محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

ملك بالصدفة

محمد السيد عيد

السبت، 20 مارس 2021 - 06:09 م

لم يكن فى الحسبان أبداً أن يتولى أحمد فؤاد عرش مصر، فهناك فرمان عثمانى منذ عهد الخديوى إسماعيل يحصر ولاية العرش فى أكبر أبناء الخديوى الحاكم

هذا العام يوافق مرور خمسة وثمانين عاماً على وفاة الملك أحمد فؤاد، إذ توفى جلالته عام 1936، ولذا نخصص هذه اليوميات للحديث عن هذه الشخصية المثيرة للجدل.
مشهد لاينسى
سارت العربة بصاحب الجناب الخديوى إسماعيل باشا فى شوارع القاهرة وسط صراخ الزوجات، وولولة الجوارى، ودموع الحاشية، فقد أصدر السلطان العثمانى الأمر بعزل إسماعيل من الحكم وولاية ولده توفيق بدلاً منه، وهاهو يغادر مصر، معشوقته، على مضض. تأثر المشاهدون بقسوة المشهد. سالت دموعهم. أما إسماعيل فكان واجماً، لايعرف إلى أين يتجه بعد الخروج من مصر. 
لم يصحب الخديوى المعزول سوى عدد قليل جداً من النساء والأولاد، منهم أصغر أطفاله:أحمد فؤاد، الذى لايزيد عمره على أحد عشر عاماً. فكر الخديوى فى ولده الصغير: هذا الولد لن يتربى فى عز أبيه. سيتربى فى المنفى. كيف ستكون حياته منفياً غريباً عن أهله ووطنه؟ أما الأمير الصغير فكانت صورة الصراخ والدموع هى آخر صورة احتفظت بها ذاكرته للوطن.
فى الإسكندرية ركب جناب الخديوى ومن معه اليخت الملكي»المحروسة». غالب دموعه. كان يحلم أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وسعى لتحقيق حلمه بكل قوة، منذ أن تولى الحكم 1863 حتى عزلوه 1879، لكن لكل جواد كبوة، فقد استدان أكثر مما يجب، وأوقع البلاد فى أزمة مالية، وهاهى النهاية: العزل والطرد. فلتتحمل قدرك ياإسماعيل كما يليق بالرجال.
بينما كان مستغرقاً فى أفكاره وصلته دعوة من ملك إيطاليا، يقول فيها إنه أعد له إقامة تليق به فى نابولى. على الفور أمر بأن تتوجه المحروسة إلى إيطاليا، وهناك ألحق ولده بالمدارس، ثم أدخله أكاديمية تورين العسكرية، ليتخرج فيها ضابطاً، ونظراً لحسن علاقة إسماعيل بملك إيطاليا فقد عين الضابط الشاب برتبة ملازم فى الجيش الإيطالى.
العودة للوطن 
دوت صفارة السفينة المتجهة للإسكندرية. كان الأمير الشاب يقف على سطحها، ينظر لمعالم المدينة. عاد بالذاكرة للوراء. ياااااااه،ثلاثة عشر عاماً مرت منذ أن رحل عن الإسكندرية. أكثر من نصف عمره، ماأقسى أن تبتعد عن وطنك مجبراً دون ذنب! لكن هاهو يعود أخيراً، بعد أن رحل أخوه الأكبر الخديوى توفيق عن الدنيا عام 1892، وتولى عرش مصرولده عباس حلمى الثانى. طلب عباس من عمه أحمد فؤاد أن يعود لوطنه. وعده برتبة اللواء فى الجيش المصرى. وافق وهاهو يعود لأرض الوطن.
قال له الخديو الشاب عباس حلمى: عمى العزيز، أنا عند وعدى. منذ الآن أنت اللواء أحمد فؤاد.
انحنى انحناءة خفيفة. قال: هذا فضل منك ياصاحب السمو
لكن هناك ماهو أهم
ماهو؟
أريدك أن تكون كبير ياورانى. فلن أجد أفضل من عمى يتولى شئونى. هل توافق؟
بل يسعدنى هذا.
إذن فلتبدأ منذ الغد فى ممارسة مهامك.
وبدأت صفحة جديدة فى حياة أحمد فؤاد. 
الجامعة المصرية
دخل قاسم أمين بك على جناب الخديوى عباس حلمى الثانى. وقف أمامه فى إجلال. أشار له الخديوى بالجلوس. جلس. سأله: خيراً ياقاسم بك؟
جئت أحدثك يامولاى فى موضوع الجامعة. إن اللجنة التى كوناها لتأسيس الجامعة حتى الآن دون رئيس، وأعضاء اللجنة جميعاً يصرون على أن يكون الرئيس من الأسرة العلوية، لأن هذا سيدفع اللجنة كثيراً للأمام.
ألم أرشح لك عمى الأمير حسين كامل؟
اعتذر.. يبدو أنه خشى أن تطلب منه اللجنة دعمها مالياً إذا قصرت معها الأموال.
لابأس.. اتصل بعمى الأمير أحمد فؤاد، فهو محب للعلم والثقافة بحكم معيشته فى أوروبا. قل له إننى الذى رشحته لهذه المهمة.
حين عرض قاسم أمين على الأمير أحمد فؤاد المنصب قبله بلا تردد. قال كلاماً يفيض حماساً للجامعة وللتعليم. وبدأ العمل مع اللجنة عام 1907، وفى العام التالى تم افتتاح الجامعة، وسجل التاريخ أن أحمد فؤاد هو رئيس اللجنة التى أنشأت الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن).
الأميرة فاطمة
جلس الأمير أحمد فؤاد مع أخته الأميرة فاطمة وعلى وجهه علامات التفكير. سألته: مالك؟
قال: مشغول يافاطمة، لاأدرى كيف أدبر احتياجات الجامعة لتكون جامعة حقيقية.
سألته: ماذا ينقصكم؟
الكثير. ينقصنا المال لدفع الرواتب وشراء التجهيزات والكتب وإرسال البعثات للخارج. ينقصنا المبنى الدائم بدلاً من التنقل من مبنى لآخر بالإيجار. ينقصنا كل شيء.
قالت فاطمة: سأساعدكم.
كيف؟
سأعطيكم ستمائة فدان من أجود الأطيان بالدقهلية لتنفقوا من عائدها
رائع
وسأعطيكم ستة أفدنة فى الجيزة لتقيموا عليها مبنى دائماً للجامعة
هذا كثير
ليس كثيراً فى سبيل نهضة مصر العلمية. أنسيت أننا أبناء إسماعيل، صاحب مشروع «مصر قطعة من أوروبا»، وبانى مصر الحديثة؟
وبرت فاطمة بوعدها، لكن كل هذا لم يكفِ، ومرة أخرى لجأ أحمد فؤاد إليها:
لاتحمل هماً ياأخى الغالى. سأعطيك المزيد لسد حاجة الجامعة
أعرف أنى أثقلت عليك
لكنى سعيدة بمساندة الجامعة. تخيل يافؤاد أنى سيكون لى ثواب عن كل من يدخل هذه الجامعة؟ 
ودخلت الأميرة فاطمة إلى غرفة نومها، وعادت بعد قليل تحمل مجوهراتها. قدمتها لأخيها، فكان للجامعة مقرها الحالى، ومبانيها الأساسية، وكل ماتحتاجه. وأحس الأمير أحمد فؤاد أنه وأخته أسسا الجامعة حقيقة لامجازاً.
سلطان بالصدفة
لم يكن فى الحسبان أبداً أن يتولى أحمد فؤاد عرش مصر، فهناك فرمان عثمانى منذ عهد الخديوى إسماعيل يحصر ولاية العرش فى أكبر أبناء الخديوى الحاكم، ثم إن عباس حلمى حى لم يمت، لكن مع الحرب العالمية الأولى تغيرت الأحوال، فقدأعطت إنجلترا نفسها حق عزل الخديوى عباس حلمى لأنها لاتأمن جانبه، وولت عمه حسين كامل، دون احترام لقاعدة ولاية العرش، وغيرت لقب حاكم مصر من «خديوى» إلى «سلطان»، ليكون مثل سلطان تركيا رأساً برأس. ولم يلبث السلطان حسين أن رحل عن الدنيا، فعرضت إنجلترا على ولده الأمير كمال حسين ولاية عرش أبيه، فاعتذر، فعرضته على أحمد فؤاد، ولم يتردد فى قبوله، وهكذا صار فؤاد سلطاناً بالصدفة عام 1917.
فى 28 فبراير 1922، بعد ثورة 19 المجيدة، صدر تصريح من بريطانيا تعترف فيه باستقلال مصر، وبناءً على هذا التصريح صار أحمد فؤاد ملكاً بعد أن كان سلطاناً، بل صار أول ملك لمصر فى العصر الحديث، لكنه أيضاً كان ملكاً بالصدفة، فلولا الثورة ماصار ملكاً.المهم أنه حين صار ملكاً انقلب حاله، وتحول إلى ديكتاتور حقيقى.
 الدستور
تقدم يحيى باشا إبراهيم، رئيس وزراء مصر،نحو صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول، بخطى هادئة. إنحنى انحناءة خفيفة. قدم له حافظة بها مجموعة أوراق. سأله صاحب الجلالة: ماهذا ياباشا؟
الدستور يامولانا. لقد انتهت اللجنة من صياغته بشكل نهائى.
مد فؤاد يده. أخذ الحافظة. فتحها.. بدأ يتصفح الدستور.. دارت فى ذهنه أفكار كثيرة،فالوصول إلى الصيغة الحالية للدستور جاء نتيجة معارك حامية. كانوا يريدون أن يكتبوا أن الأمة مصدر السلطات. طلب ألا يكون هذا النص موجوداً. أراد أن يكون الملك مصدر السلطات. فى النهاية توصلوا إلى حل وسط. لن يكتبوا هذا ولاذاك. لكن لم يستطع أن يغير شيئاً فيما يتعلق بالنظام البرلمانى. أى أن حزب الأغلبية هو الذى سيحكم، وسيكون مسئولاً أمام البرلمان. أما هو فسيملك ولا يحكم. لكنه رغم كل شيء احتفظ لنفسه بحق حل البرلمان، وإقالة الوزارة. يااااااااه. كانت معركة.
لاحظ رئيس الوزراء صمت جلالته الطويل. سأله: فيم يفكر مولانا؟
أفاق من شروده. قال: كنت أفكر فى أبى، الخديوى إسماعيل، فهو أول من فكر فى إصدار الدستور.
قال يحيى باشا: والد جلالتكم فكر لكن الظروف لم تسعفه لإصداره، أما جلالتكم فقد صار الدستور فى عصركم حقيقة، وصرت أول ملك دستورى فى تاريخ مصر.
دعه لى ياباشا.. سأوقع عليه وأرسله لك
ثم جاء صدقى باشا

صدر أول دستور لمصر عام 1923، ومرت سنوات قليلة وفؤاد يحتمله على مضض،فالمعروف أن سعد زغلول اختلف مع جلالته فى حدود السلطة التى يجب أن يتمتع بها الملك، إذ كان سعد يرى أن الوزارة هى المسئولة عن كل شيء. واحتكم إلى الخبراء القانونيين فى موضوعات الخلاف أكثر من مرة. وكان الحكم لصالح سعد.
مات سعد عام 1927، وجاءت الفرصة لجلالته كى يفتك بالدستور. فاستدعى إسماعيل باشا صدقى، أسوأ ديكتاتور فى تاريخ مصر فى يونيو 1930. وبادره بالسؤال: صدقى باشا، أنا أعلم أنك تكره حزب الوفد.
قال صدقى: كراهية التحريم ياصاحب الجلالة. إنه يمثل الغوغائية، وأنا أرى أن الأمم لاتنهض بالغوغائية، بل بأفكار الصفوة.
قال جلالته: لو وليتك الوزارة فماذا ستفعل؟
قال: سأعطل الدستور الذى يحتكم إليه الوفد، وأنشئ دستورا جديداً يجعل جلالتك فوق الجميع، وسأطلب من جلالتكم تعطيل البرلمان الذى يتيح للوفد الوقوف فى وجه جلالتكم. باختصار، ستكون جلالتكم صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى هذا البلد.
قال صاحب الجلالة: توكل على الله. سأصدر قرار تكليفك بالوزارة اليوم. وتشكلت الوزارة فى 4 يونيو 1930، وأصدر صدقى دستور 1930، فكان انقلابا لصالح جلالته، وهاجت الدنيا وماجت، ولم تهدأ حتى ألغى فى عهد وزارة توفيق نسيم باشا التى تشكلت فى 14 نوفمبر 1934، وعاد دستور 1923، وانتصرت مصر على الديكتاتورية.
إنجازات كبرى
رغم ديكتاتورية فؤاد إلا أن عصره شهد إنجازات غير مسبوقة، منها: إنشاء بنك مصر، وبنك التسليف الزراعى، وإنشاء أول شركة طيران فى المنطقة، وإنشاء الإذاعة الحكومية، وإنتاج أول فيلم سينمائى مصرى، وإنشاء ستوديو مصر، وإنشاء عدد من فرق التمثيل الكبرى مثل فرقة رمسيس وفرقة ترقية التمثيل، ومطبعة مصر. لكن السؤال هو: هل كان السبب فى هذا عبقرية الثورة أم رغبة جلالته فى النهضة؟
الرحيل
أصيب جلالته بمرض فى أسنانه. كان من الضرورى أن يخلع أسنانه كلها، وأصيب بغرغرينا فى اللثة. وعاش أياماً صعبة، وأخيراً رحل عن الدنيا بما له وماعليه. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة