الجامع الطولونى
الجامع الطولونى


الجامع الطولونى.. يتحدى النار والفيضان

آخر ساعة

الأحد، 02 مايو 2021 - 11:05 ص

حسن حافظ 

"أريد أن أبنى بناءً إن احترقت مصر بقى، وإن غرقت بقى"، بهذه الجملة لخص أمير مصر والشام أحمد بن طولون حلمه، برغبته فى أن يحفر اسمه فى سفر الخلود بعمل يتحدى الزمن، يبقى فى وجه المحن، لا يزول بتجدد الكوارث، فكان الجامع فوق جبل يشكر، يطل من علوه على مجرى الزمن، حفر ابن طولون اسمه على جامعه الذى ظل شاهدا على مجد ضائع لمدينة مفقودة عرفت يوما باسم القطائع كانت أجمل من سامراء العباسيين نفسها، وارتبط الجامع الشهير بشهر رمضان فقد افتتح للصلاة للمرة الأولى فى شهر رمضان، ثم ارتبطت إحدى أكبر عمليات الترميم للجامع فى العصر الحديث برغبة الملك فاروق فى زيارة الجامع وأداء صلاة الجمعة به.

جاء أحمد بن طولون مصر واليا عليها من قبل الخلافة العباسية فى حدود العام 254هـ/ 868م، لكن الشاب التركى الذى يبلغ من العمر 33 عاما، لم يرغب فى أن يكون مجرد والٍ يأتى بقرار من الخليفة ويخلع من منصبه بقرار آخر، لذا وضع نصب عينيه هدف الاستقلال بمصر وأن يرضى الخليفة العباسى بالدعاء له على منابر مصر، وبالفعل نفذ ابن طولون خطته سريعا واستقل بمصر ومد نفوذه إلى بلاد الشام والحجاز، وهزم جيوش الخلافة العباسية غير مرة، فرسخ استقلال مصر السياسى لأول مرة منذ أن دخلها الإسلام، ولكى يستكمل استقلاله رأى ابن طولون أن يبنى عاصمة جديدة تحكى عظمة دولة الطولونيين، وتتفوق على عواصم العباسيين سامراء وبغداد.

اختار ابن طولون المنطقة الواقعة شمال مدينة الفسطاط (مصر القديمة)، وتحديدا الفراغ الواقع بين جبل يشكر وجبل المقطم حيث بنى جامعه، والمدينة التى ستعرف باسم القطائع، وزينها بقصره الضخم والذى ألحق به ميدان للعب الكرة، ومن أجل ضخامة هذا الميدان الذى زين ببوابة ضخمة عرف القصر باسم قصر الميدان، بينما أقطع أحياء المدينة الجديدة لطوائف جيشه، أما جامع المدينة فقد تقرر أن يكون الأكبر فى مصر مساحة ولا يقل فى العظمة عن مساجد بغداد وسامراء، فتقرر أن يبنى فوق جبل يشكر ليكون له إطلالة ساحرة على الفضاء المحيط.

وضع المخطط الأصلى للجامع الضخم لكى يضم 300 عمود، وكان مطلوبا توفيرها بأى شكل، وقال له بعض معاونيه، إنه لن يجد هذا العدد من الأعمدة إلا بالبحث فى الكنائس الخربة فى الأرياف، لكن هذا كان يحتاج إلى مجهود كبير، وفى هذه الأثناء، جاء مهندس قبطى بحل عبقري، إذ قال لابن طولون: "أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودى القبلة"، فأعجبت الفكرة أحمد بن طولون الذى وضع ميزانية مبدئية 100 ألف دينار للإنفاق على بناء الجامع، وقال للمهندس القبطي: "أنفق وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك".

وكانت رغبة ابن طولون فى بناء يعرف الخلود ويتحدى عاديات الزمن، لذا قال: "أريد أن أبنى بناء إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي. فقيل له: يُبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القوى بالنار «الطوب الأحمر» إلى السقف، ولا يُجعل فيه أساطين رخام، فإنه لا صبر لها على النار. فبناه هذا البناء"، وزود ابن طولون الجامع بـ"خزانة شراب فيها الشرابات والأدوية وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة". 

ويرصد المقريزى فى كتابه "المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار" كيف تمت عملية البناء قائلا: "فوضع النصرانى يده فى البناء فى الموضوع الذى هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه ويعمل الجير، ويبنى إلى أن فرغ من جميعه، وبيضه وخلقه، وفرش فيه الحصر، وعلق فيه القناديل بالسلاسل الحسان الطوال"، وتم افتتاح الجامع لأول صلاة فى رمضان سنة 265هـ/ 878م، وقد صعد المهندس القبطى على المئذنة الشهيرة للجامع وصاح: "يا أحمد بن طولون.. يا أمير الأمان، عبدك يريد الجائزة، ويسأل الأمان... فقال أحمد بن طولون: انزل فقد أمنك الله، ولك الجائزة. فنزل وخلع عليه، وأمر له بعشرة آلاف دينار، وأجرى عليه الرزق الواسع إلى أن مات".

ومن الطرائف التى تذكر فى بناء الجامع الطولوني، أن الأمير أحمد بن طولون أثناء تجواله فى الجامع عند أعمال البناء رأى العمال والصناع والبنائين يعملون حتى دخول الليل، فقال: متى يشترى هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم؟ اصرفوهم العصر، فصارت سنة إلى اليوم بمصر، فلما فرغ شهر رمضان قيل لأحمد بن طولون: قد انقضى شهر رمضان، فيعودون إلى رسمهم، فقال: قد بلغنى دعاؤهم وقد تبركت به، وليس هذا مما يوفر العمل علينا. وكما واضح من النص التاريخى الذى حفظه لنا المقريزي، فإن أول محاولة لإعطاء العمال حقوقهم وتحديد ساعات عمل لهم، لم تحدث فى بريطانيا القرن التاسع عشر، بل فى مصر وببركة شهر رمضان فى القرن التاسع الميلادي.

ويقول د.أيمن فؤاد سيد، أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر، إن مساحة الجامع 17244 مترا مربعا، وتحيط به من خارجه عدا جهة القبلة ثلاثة أروقة خارجية مكشوفة على شكل طريق حول الجامع، تعرف بـ"الزيادات" مجموع مساحاتها 9037 مترا مربعا، فتكون المساحة الإجمالية للجامع والزيادات الخارجية 26281 مترا مربعا، ويعد جامع ابن طولون وجامع الحاكم بأمر الله الواقع عند باب الفتوح، وجامع الظاهر بيبرس فى حى الضاهرية، أكبر جوامع القاهرة التاريخية من حيث المساحة.

ومن الأمور المميزة فى الجامع الطولونى مئذنته الشهيرة، والتى جاءت على طراز فريد، يشبه طراز الجوامع التى ظهرت فى العراق وقتذاك، وعنها يقول العلامة حسن عبد الوهاب فى كتابه "تاريخ المساجد الأثرية": "أقيمت المنارة فى الزيادة الغربية لصق حائط الزيادة... وهى مبنية بالحجر مقاس قاعدتها 12.78 مترا فى 13.65 مترا، وسلمها من الخارج بأربع قلبات يصعد منه إلى سطح فسلم حلزونى نصف دائرى يوصل إلى سطح آخر يرتكز عليه الجزء العلوي، وهو على هيئة مبخرة، وهى المنارة الوحيدة فى مصر ذات السلم الخارجي".

ومر الجامع بتاريخ طويل وعاش لقرون عدة بعد رحيل صاحبه، فعرف لحظات من السعادة والألق، ودخل فى سرداب النسيان والتجاهل لعقود امتدت لقرون، وتداولته الأيادى بين من يعرف قيمة المكان فحافظ على الجامع، ومن طمع فى استغلال المساحة الضخمة للجامع فحوله إلى أنشطة أخرى لا علاقة لها بإقامة الصلوات، وظل الجامع كسفينة تبحر فى محيط بلا قرار لأكثر من ألف سنة بين علو وهبوط حتى وصل إلى شط النجاة، وهرب من مصير أسود بمعجزة وظل فى النهاية جامعا وشاهدا على عصر القطائع الذهبي، وهى المدينة التى دخلتها الجيوش العباسية ودمرتها بعد نحو 38 عاما من حكم الطولونيين، ولم يبق من هذه المدينة إلا الجامع الطولونى شاهدا على العصر الذى كان.

محمود عكوش فى كتابه "تاريخ ووصف الجامع الطولوني" يرصد تاريخ الجامع الطولونى فى الحقب التاريخية المختلفة، إذ تم ترميم الجامع فى عصر الخليفة الفاطمى العزيز بالله فى سنة 385هـ/ 995م، ثم أجريت ترميمات واسعة فى عهد الوزير بدر الجمالي، سنة 470هـ/ 1077م، ويكتسب ترميم بدر الجمالى أهمية كبرى، إذ إنه تم بعد الشدة المستنصرية التى أصابت معظم معالم القاهرة بالخراب، خاصة أن بعض الثائرين استخدموا الجامع الطولونى كثكنة عسكرية فى صراعهم الذى ميز هذه الفترة قبل أن يعيد بدر الجمالى الاستقرار إلى مصر.

وفى العصر الأيوبى استغل السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، الجامع لكى يكون مأوى للمغاربة الذين يفدون على مصر فى طريقهم لأداء مناسك الحج، وهو ما يكشف عن الإهمال الذى تعرض له الجامع فى العصر الأيوبي، والذى استمر فى مطلع العصر المملوكى إذ استخدم السلطان الظاهر بيبرس الجامع كمخزن ومخبز للغلال فى حدود سنة 662هـ/ 1263م، وهى معاملة كادت تذهب بكل أثر للجامع الذى بدأ فى القرن السابع الهجرى يفقد الكثير من قدرته على البقاء، وكان قاب قوسين أو أدنى من الفناء، لكن الخروج من المحنة كان يحتاج لمعجزة!

فبعد أن قتل أمراء المماليك السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، سنة 693هـ/ 1293م، وكان الأمير حسام الدين لاجين أحد من شارك فى قتله، وخوفا من أن يقتله أمراء السلطان القتيل، اختبأ فى الجامع الطولونى الذى كان فى هذه اللحظة "خراب لا ساكن فيه" على حد وصف المقريزي، وأعطى لاجين الله عهدًا إن سلمه الله من هذه المحنة ومكنه من الأرض، أن يجدد عمارة هذا الجامع ويجعل له ما يقوم به، وقد بر بعهده بعدما وصل إلى عرش سلطنة المماليك بعد هذه الأحداث بأربع سنوات.

أمر السلطان المنصور لاجين بإعادة تعمير الجامع الطولوني، وكلف علم الدين سنجر الدوادارى بهذه المهمة، وأمره بشراء الأوقاف لوقفها على الجامع، وإعادة تعميره و"أكد عليه ألا يسخر فيه فاعلا ولا صانعا"، بالفعل نجح سنجر الدوادارى فى تنفيذ رغبة السلطان، فـ"عمر الجامع، وأزال كل ما كان فيه من تخريب، وبلطه وبيضه ورتب فيه دروسا لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة التى عمل أهل مصر عليها الآن، ودرس يلقى فيه تفسير القرآن الكريم، ودرس لحديث النبى صلى الله عليه وسلم، ودرس للطب"، أى أنه حول الجامع إلى جامعة علمية، وأنقذه بذلك من مصير أسود كان ينتظره.

وظل الجامع مصان الجانب طوال العصر المملوكي، لكنه عاد إلى الخراب فى العصر العثماني، الذى استمر لنحو ثلاثة قرون تراجعت فيها مصر على جميع الأصعدة، لذا لم يكن غريبا أن يتم إنشاء ورشة لعمل الأحزمة الصوف فى عهد محمد بك أبى الدهب فى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، ثم تعرض الجامع لضربة موجعة على يد كلوت بك الذى حول الجامع سنة 1847، إلى ملجأ للعجزة والطاعنين فى السن، ما أدى إلى تلفيات خطيرة فى الجامع، إذ تحولت أروقته لمساكن بعد بناء فواصل بالطوب بينها، وأصبح من المستحيل رؤية معالم الجامع فى مثل هكذا وضع.

جاء الإنقاذ الأخير للجامع على يد لجنة حفظ الآثار العربية بداية من عام 1890، والتى قررت إعادة الجامع إلى سابق عهده والتخلص من الاعتداءات التى نفذها كلوت بك على المكان، ونجحت فى إزالة تعديات الأهالى وإعادة الجامع إلى سابق رونقه، بعد نحو عقدين من عمليات الترميم التى امتازت بدقتها، وقرر الملك فؤاد الأول فى سنة 1918، إعادة صلاة الجماعة فى الجامع، وبهذه المناسبة أجريت عدة ترميمات بالجامع، تواصلت طوال عقد العشرينيات من القرن الماضي، والتى نجحت فى إعادة الجامع إلى سابق عهده، خاصة بعدما أجرى المجلس الأعلى للآثار مشروعا لترميم الجامع انتهى فى عام 2004.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة