صورة ارشيفية
صورة ارشيفية


البوظة.. كأس الغلابة

بوابة أخبار اليوم

السبت، 22 مايو 2021 - 06:13 ص

الأسطى عبدالعزيز  «الملك» استخدمها فى ترويض الحصان الشارد
الحملة الفرنسية سجَّلت حانات الغلابة فى كتاب «وصف مصر»
شيخ الطائفة يقوم بتحصيل العوائد بإيصالٍ مختومٍ من ديوان الداخلية
أحمد عبد النعيم

أمام يافطة بوظة المعلم علبة يقف الفتوة حسونة السبع؛ ليضرب حليمة، بينما يخرج ابنها ضيا من المحل بعد أن شرب حتى فقد القدرة على الدفاع عن أمه، ويكتفى بنظرة حسرة وبكاء خفى وعين لا تقوى على الدفاع أو حتى البكاء.. مشهد فيلم التوت والنبوت رائعة حرافيش نجيب محفوظ وبعده عدد من أفلام الفتوات التى اعتبرت البوظة مكان الفتوة وأعوانه وملتقى فرفشة فارغة وتوهان لحظى  وأحيانًا مكان الغلابة وفاقدى الحيلة تجاه ظروف الحياة، وربما الهروب من واقع مرفوض وهذيان إنسانى لطاقة كامنة يرفضها الواقع.


نجد الأسطى كاتنلا (نبيل الهجرسى) يجلس يشرب البوظة، وقد أصبح أضحوكة الحى بعد اعتداء المعلم داغر على زوجته، واعتبر كاتنيلا البوظة حلاً  لأزمته ووسيلةً للهروب من واقعة وقلة حيلة وخوف وتعويض عن رجولة ضائعة رائعة سيناريو أحمد عبدالسلام  فى فيلم الفرن اتخذ الجميع البوظة مكان هروب من بطش المعلم صاحب النفوذ، وربما وسيلة أخرى لتعويض الكرامة الضائعة..

وبنفس الحيلة لجأ إليها بكر(ممدوح عبدالعليم)  الابن الأصغر للفتوة الناجى بهروبه إلى البوظة مشهد فيلم الحرافيش.. وعادة ما يجلس الجميع يشرب فى وعاء من الفخار (قرعة)، وكانت تأتى القرعة من الجنوب فى مراكب ويستلمها تاجر الفخار من أمام معدية الساحل وتوزع بعد ذلك على تجار روض الفرج والسبتية وعدد من أماكن وسط البلد، بعدها يأتى صبيان لشراء كميات من محلات الجملة لتوزيعها على محال البوظة المنتشرة بأنحاء القطر المصرى بمقابل مادى وسطل بوظة وقرطاس ترمس كبير.

محال البوظة 
ـ لم يكن لدينا حصر حقيقى بعدد محلال البوظة داخل القطر المصرى وإن كان البعض قدرها بحوالى 169 محلًا وهى غالباً المحلات التى يتم تحصيل العوائد (الضرائب)، وهناك عدد كبير داخل الحوارى والأزقة لم يدفع عنها الضرائب عادة ما كانت تسقط من الحصر، ولكنها غالباً تعمل بعيداً عن القانون منها، وانتشرت محلات البوظة فى الأماكن الشعبية والحارات الضيقة بولاق وروض الفرج والأزبكية وشارع الترعة بشبرا وغالبًا تجاور سينما الترسو، ومن المفارقات أن منطقة وسط البلد كانت مقسمة إلى أماكن شعبية لبيع البوظة للفقراء وأصحاب المهن الحرة (فى الفجالة كانت تتمتع بمحل بوظة أغلب رواده من العربجية والمكارية وعادة ما يشرب البوظة والحمار من نفس القرعة وكان البعض يحمل سطلاً خاصًا للمكارى وآخر للحمار)، وكان الأسطى عبدالعزيز الملقب بالملك كثيراً ما استخدم البوظة فى ترويض الحصان الشارد بشرب قرعة من البوظة، ويقال إنه فى إحدى المرات دخل إلى بوظة يرتادها عساكر الإنجليز، وأراد أحدهم أن يسخر منه بنظرة فوقية دفعت الملك إلى استخدام ورقة فئة الجنيه (مبلغ كبير)، وقام بإشعال سيجارة ورمى باقى الجنيه فى وجه عساكر الإنجليز وكاد أن يتسبب فى أزمة سياسية.    
وهناك أماكن حانات خاصة لأصحاب المعالى والبكوات  وإن كان النصيب الأكبر لمحلات البوظة  للمناطق الساحلية كالإسكندرية التى بلغ عدد المحلات بها 43 محلًا.. والبوظة مكان بسيط به عدد من الكراسى الخشبية يتوسطها ترابيزة صغيرة يوضع عليها (قرعة البوظة) وقليل من الجرجير والطماطم وقد تستبدل قرعة البوظة بكوز من الصاج بيد ولم يكن يسمح لأحد بلعب ورق الكوتشينة أو أى  نوع من القمار أو حتى إحداث أصوات عالية (سبق أن رقصت شفيقة القبطية بعد أن بلغت من العمر الخمسين وولى عنها الشباب والمال والثروة وقبل أن تتسول فى الشوارع رقصت مرة واحدة فقط فى بوظة بباب الخلق) حتى لا يلغى ترخيص المحل من قبل ديوان الداخلية الذى يمنح الترخيص لأصحاب المحلات شرط الالتزام بالشروط الموضوعة لرخصة المحل، ويجب وضع صورة الرخصة فى مكان واضح وظاهر بالمحل يتضمن الشروط الواجب اتباعها ومراعاة النظافة العامة. وغالباً ما كان يلجأ أصحاب محلات البوظة إلى بناء مصاطب بدلاً من الكراسى الخشبية يجلس عليها الزبائن وأمامهم الطلبات.. وبجوار محلات البوظة غالباً ما يكون هناك معمل للترمس (بوظة روض الفرج) بجوار سينما ألف ليلة أو يحتكر صاحب محل البوظة بيع الترمس وسائل المزة الأخرى (الفول النابت بالكمون)، وقد يتفق مع البائع السريح أو البائعة للتوريد يومياً لرواد البوظة ولم يكن يسمح لأى بائع سريح بدخول البوظة إلا بعد الاتفاق مع صاحبها أو أحد العمال فيها نظير مقابل يومى يستقطع منه ويقال إن بعض العاملين كانوا هم أصحاب بضائع السريح.. ولمحل البوظة باب خشبى للدخول وسلم بدرجات أسمنتية تنزل بك إلى أسفل، وهناك مخصص للفتوة وأعوانه يسمى الركن الملوكى، ولم يكن مسموحًا لأى فرد الجلوس هناك حتى فى حالة عدم جلوس الفتوة وأحيانًا يكون هناك شباك يطل على الشارع يبيع فيه المعلم البوظة للمارة فى طابور يمسك كل منهم بصفيحة «علبة سمن أو كوز» ويضع المعلم البوظة بمليم أو اتنين حسب حجم العلبة وتقديره الشخصي. 
ـ بوظة دليفرى 
رسمت الحملة الفرنسية لوحات تسجل الحياة المصرية ولم تهمل تصوير محل بوظة يقدمها لعابرى السبيل بمقابل بسيط.. يصور البائع خلف شباك كبير وأمامه عدد من الأفندية، يجلس البعض على أقفاص من الخوص، وهناك من وصل به الشرب إلى حد النوم مستلقى وزوجة ربما تقف تلوم زوجها على ما يفعله، وهناك رجل كبير فى السن قد جلس على أريكة كبيرة غالبًا هو شيخ الطائفة يراقب المشهد بالكامل وهو الرسم المنشور فى كتاب وصف مصر.

وفى القرن الخامس عشر استخدم جمال الدين أبى المحاسن بن تغرى بردى كلمة «بوظة» فى كتابه النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة الذى فيه ذكر عن سمعة بائعى البوظة وصاحب محل البوظة، رجل يتمتع بالقوة، ولديه صبيان للبيع، وغالباً ما يكون صديقًا للفتوة يستمد منه القوة نظير دفع إتاوة أكبر ويكون له الحق فى استقبال الزبائن دون غيرهم من مثيرى المشاكل حتى لا يغلق المحل وغير مسموح له ببيع البيرة أو أى أنواع من الخمور داخل البوظة فلها أماكن أخرى ربما لارتفاع سعرها فى مقابل ملاليم البوظة (بعض الباحثين يعتقدون أن مشروب البوظة له أصول فرعونية وهو يوجد فى عدة بلاد أخرى منها كازاخستان وتركيا وقيرغيزستان وألبانيا وبلغاريا ومقدونيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وأجزاء رومانيا وصربيا.. وكلمة بوظة أصلاً من الكلمة التركية «boza»، وتصنع البوظة من الشعير والقمح بعد تخميرة حتى يعطى طعمًا خاصًا لها، وقد راح البعض يروج، وهم أحيانًا على حق، أنها كانت تصنع من العيش (العفن) بعد صب الماء عليه وتكسيره وتركه فترة للتخمير. 
شيخ طائفة بائعى البوظة 
ـ بعد أن يمنح ديوان الداخلية التصريح لفتح محل البوظة يستدعى شيخ الطائفة لتحديد العوائد (الضرائب) المستحقة على كل محل سنوياً، ويلتزم شيخ الطائفة بتحصيل العوائد بايصال مختوم من ديوان الداخلية، ولا يجوز لشيخ الطريقة أبداً التدخل لمنع التحصيل لأى سبب طالما أن المحل يعمل حتى فى أوقات الغلق والتى عادة ما تكون فى فصل الشتاء وقلة عدد الزبائن فى بعض الأيام يكون صاحب المحل والملتزم (شيخ الطائفة) بدفع الضريبة عن السنة كاملة، ولا يجوز الإعفاء منها طالما حصل على التصريح، يمنع فقط حال تسليم التصريح وتغيير النشاط.
ويتم اختيار شيخ الطريقة عن طريق مزاد علنى يسدد فيه الشخص المتقدم تأمين دخول المزاد لضمان الجدية (مما يعنى أننا أمام مهنة تدر دخلًا جيدًا لصاحبها)، وبعد الاختيار يتم الالتزام تجاه ديوان الداخلية وشيخ الطائفة بتحصيل المبالغ المحددة على كل محل يقع فى نطاق شيخ الطائفة ولا يحق له تحصيل أو استغلال نفوذه فى الحصول على أى امتيازات كالشرب مجاناً مثلاً أو تحصيل مبالغ أكثر من المحدد ولا يلغى فوراً منصبه أو يوقع عليه الغرامة حسب نوع المخالفة وحسب تقدير ديوان الداخلية.. ويعطى شيخ الطائفة وضعًا اجتماعياً داخل دائرة بائعى البوظة ويعتبر بمثابة الحارس الأمين وحلقة الوصل بينهم وبين الحكومة، وقد يتوسط فى بعض الأحيان لتأجيل المبلغ المحدد (العوائد) أو تقسيطه لدى الديوان، وقد يقوم بدفع المبلغ من ماله الخاص على أن يحصل عليه بعد ذلك، وكان الاختيار يتم بقواعد يضعها ديوان الداخلية وبشروط تضمن الأمانة والسيرة الحسنة، ولا يحق لشيخ الطائفة أبداً مشاركة أى من صاحب محلات البوظة وإلا يلغى فوراً منصبه وتُسحب منه الإيصالات المختومة، أم إذا رغب فى ذلك فعليه أن يوضح أولاً وقبل المنصب نوع الشراكة والريع منها ولا يعتبر الملتزم وسيطًا للبائع فى أى مشكلة إلا فيما يتعلق بالبوظة فقط. ويعرف شيخ الطائفة حدود عمله جيداً ونجده يجلس على كنبة خشبية كبيرة يعطى النصائح لكل من يحاول أن يدخل الكار أو يتوسط لفقير لعمل بمقابل داخل محلات البوظة التى تقع فى نطاق دائرته، لأن العامل الحاصل على تصريح يُدرك أن أى شكوى قد تجعل ديوان الداخلية تلغى تصريحه ويلتزم شيخ الطائفة بواجبه تجاه طائفته بشكل يجعل له الهيبة والكلمة العليا، وكثيراً ما يدخل لفض نزاع بين أصحاب المحلات فى الحارة الواحدة قبل أن يصل إلى الفتوة الكبير أو الحكومة. ويحصل شيخ المهنة على مقابل نسبة من المبالغ المحصلة من أصحاب المحلات التى تقع فى نطاق عمله ويتم تقسيم كل منطقة بعدد المحلات بها وعنها يتم تحديد النسبة، وهى عادة مبلغ يضمن لشيخ المهنة الهيبة والوقار، ولكل منطقة مزاد سنوى لتجديد شيخ المهنة وهو ما يجعل المنافسة شديدة وغالباً ما كان يتدخل الفتوة (واسطة) لأحد أصدقائه أو استمرار القديم كثير من العطايا له.
ويبقى السؤال هل اختفت البوظة وأصبحت حكاية من سيرة الأجداد.. إننا أمام مشروع استفاد من الزمن، لقد تطور مشروب البوظة ليصبح خاصًا بالطبقة المتوسطة والطبقة الأعلى على هيئة الأيس كريم وإضافة الفراولة وبعض الفواكه وأصبح يُباع فى محلات خاصة، واختلفت طريقة تصنيعها، فلدينا البوظة الشامى والبوظة اللبنانى والسورية، وتصدرت طريقة عمل البوظة برامج الأكل وأحياناً مطلب لمتصل ولم تسلم من نيران الفتاوى الخاصة بالتحريم من عدمه، واختفت حانات البوظة بشكلها التقليدى وروادها الغلابة واكتفى بائع البوظة بالوقوف أعلى الدائرى وبعض الأسواق الشعبية يبع البوظة التقليدية فى أكياس ويترحم على زمن فات. 
البط والمحشي أشهر أكلات القناوية في رمضان.. و«بوظة البدري» المشروب الرسمي

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة