الشخصية المصرية.. تكسر «الانكسار»
الشخصية المصرية.. تكسر «الانكسار»


هكذا يقول التاريخ:

الشخصية المصرية.. تكسر «الانكسار»

آخر ساعة

الأحد، 06 يونيو 2021 - 10:34 ص

حسن حافظ

رغـــم المحـــن والنكسات والأزمــــات التى عرفـها الإنسان المصرى على مدار آلاف السنين، فإن إرادته لا تمـــوت ويعـــود إلـيــه شـــبابه وحيويته، يكسـر أغلال الانكسار ويعود مجدداً ليقف فى صمود تحت راية النصر، هكذا كان درس التاريخ يوماً عن كنانة الله فى أرضه، ولم تكن نكسة يونيو 1967 استثناء عن هذه القاعدة.

بعدما قال المراقبون إنها هزيمة بلا عودة لأمة خرجت عن مسار حركة التاريخ وصراع الأمم، كانت المشاهد قاسية والنتائج فادحة بحجم الأحلام الكبيرة التى عاشتها الأمة، لكن المصريين لا يعرفون الانكسار فخرجوا يطالبون الرئيس جمال عبدالناصر، بتحمل المسئولية كاملة، وهو ما تم بالفعل وبسرعة حيث اندلعت حرب الاستنزاف وتمكنت القوات المصرية من عزف نغمة الانتصارات بتحقيق عمليات نوعية فى عمق العدو، وتم بناء حائط الصواريخ، ثم تكلل كل هذا بانتصار أكتوبر 1973، الذى أثبت أن مصر قادرة بشعبها على تحقيق النصر.

الشخصية المصرية حقيقة اعترف بها العالم الكبير جمال حمدان صاحب "شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان"، إذ يقول فى مفتتح كتابه الشهير عن مصر: "والذى نراه هو أننا إزاء حالة نادرة من الأقاليم والبلاد، من حيث السمات والقسمات التى تجتمع فيها، فكثير من هذه السمات تشترك فيه مصر مع هذه البلاد أو تلك، ولكن مجموعة الملامح ككل تجعل منها مخلوقا فريدا فذا، فهى بطريقة ما تكاد تنتمى إلى كل مكان دون أن تكون هناك تمام، وبهذا فإنها تكاد تأخذ من كل طرف تقريبا بطرف، أى تأخذ بالحد الأدنى -على الأقل كميا- من الحد الأقصى من الحالات والسمات... بصورة تؤكد فيها ملكة الحد الأوسط ويجعلها سيدة الحلول الوسطى، تجعلها أمة وسطا بكل معنى الكلمة، بكل معنى الوسط الذهبي... ولعل فى هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها على مر العصور ورغمها".

وينصف التاريخ المصريين دوماً، فهو السجل الأمين لما واجهته مصر على مدار قرون وكيف واجهت العديد من التحديات وخرجت منها منتصرة، ففى وقت ما نحو عام 1560 قبل الميلاد، احتل الهكسوس معظم الأقاليم المصرية، لكن قاد حكام طيبة عملية المقاومة، فكان ملوك هذه الأسرة تعبيرا عن الرغبة الشعبية فى طرد المحتل والتمثل الحقيقى لهذه الرغبة وصولا إلى التحرير على يد الملك أحمس والذى أسس أسرة جديدة على كامل الأرض المصرية، هنا نرى التناغم بين الشعب والسلطة فى وحدة الهدف، فمقتل سقنن رع ثم ابنه كاموس لم ينل من عزيمة المصريين لأن مطلب التحرير كان محل إجماع واضح فلم تنكسر الإرادة الوطنية حتى مع الهزائم الأولية ومقتل قادة التحرير فى الجولات الأولى، وتحولت مصر من دولة خاضعة لاحتلال الهكسوس لدولة مستقلة سرعان ما بنت أكبر إمبراطورية فى وقتها، وعاشت مصر القديمة قمة ازدهارها الحضاري.

من المشاهد الكاشفة عن روح هذا الشعب، ما شهدته البلاد فى نهاية العصر الفاطمى من انهيار للدولة، إذ أصاب الضعف الخلافة الفاطمية، ووصل الحال إلى أن الصليبيين فرضوا جزية على مصر مقدارها 100 ألف دينار، بل إن الصليبيين طلبوا أن تكون أبواب وأبراج سور القاهرة فى أيديهم وهو ما نفذه الوزير شاور، لكن أمام هذا الانكسار عادت مصر بعدها بسنوات فسقطت الخلافة الفاطمية، واستطاع صلاح الدين الأيوبى انطلاقا من مصر توحيد بلاد الشام تحت رايته، ولم تمض سنوات قلائل حتى استطاع السلطان الأيوبى تحقيق نصر حطين الذى هزم فيه الصليبيين، وحرر بيت المقدس، ولم يكن هذا ليتحقق دون موارد مصر الضخمة التى موّلت سنوات الحرب، ولذا وضع الصليبيون خططهم لاحتلال مصر فشنوا أكثر من هجمة بحرية لكنها فشلت فى تحقيق الهدف، وكان آخرها الحملة الصليبية السابعة بقيادة ملك مصر لويس التاسع، والذى انتهى به الحال أسيرا فى يد جنود مصر بعد هزيمة جيوشه فى فارسكور هزيمة نهائية.

وسنجد النموذج الأوضح فى مواجهة الغزو المغولي، فالسلطة ممثلة فى طبقة المماليك لم يكن من الممكن أن تواجه الخطر المغولى إلا من خلال واقع مجتمعى يشعر بالخطر وينحاز لخيار الدفاع عن الأرض عبر تقديم موارد مصر لتجهيز الجيش، ولكى يستطيع السلطان قطز الحصول على الدعم الشعبى لخيار الحرب كان لابد من تقديم تنازلات حقيقية أمام طبقات الشعب، فتنازل عن ضرائب كان سيفرضها على الشعب لتجهيز الجيش، وأجبر أمراء المماليك على تقديم أموالهم وممتلكاتهم لنفس الغرض، وهى استجابة أتت مفعولها سريعا بالانتصار الكبير فى "عين جالوت".

وفى بداية العصر الحديث ظهر المعدن المصرى الأصيل، ففى وقت قيل إن الشعب المصرى مات بسبب الحكم العثمانى الذى أنهك البلاد والعباد، ظهر المارد المصرى فى مواجهة الاحتلال الفرنسى وأعلن الشعب الثورة فى المدن والريف، وكان أشهرها ثورة القاهرة الأولى أكتوبر 1798، وثورة القاهرة الثانية أبريل 1800، وواصل الشعب نضاله ضد عودة الحكم العثمانى بعد زوال الاحتلال الفرنسى عام 1801، حتى اختيار الشعب ونخبه لمحمد على باشا والياً على مصر عام 1805، والذى عمل على بناء مصر بسواعد أبنائها، وكانت نجاحاته العسكرية من هزيمة الوهابيين والعثمانيين من فعل الجنود المصريين.

وإذا انتقلنا لتجارب تاريخية أقرب، فنرى كيف استجابت القيادة السياسية ممثلة فى رئيس حزب الوفد مصطفى النحاس للمد الشعبى الرافض للاحتلال الإنجليزي، وأعلن عام 1951 إلغاء معاهدة 1936، استجابة لتيار شعبى جارف تمثل فى نضال طلاب الجامعات والعمال، فضلا عن الفدائيين ضد قوات الاحتلال، فهنا كان القرار انحيازا صريحا للشعب الراغب فى الحصول على الاستقلال التام، وهو ما تجلى بعد أشهر قليلة فى تحرك الضباط الأحرار فى ثورة يوليو 1952، والذى حظى بدوره بدعم شعبى انتهى بجلاء الاحتلال البريطاني.

وسنجد فى مشهد نكسة 1967، واحدا من أهم اللحظات فى تاريخ مصر المعاصرة. حيث خرج مختلف طبقات الشعب، عن بكرة أبيه، لإعطاء القيادة السياسية ممثلة فى الرئيس جمال عبدالناصر دفعة جديدة لمواصلة القتال والاستعداد للجولة المقبلة من الحرب، هنا نحن أمام استجابة شعبية تجاوزت الانكسار، لأنها استوعبت خطورة اللحظة، ولولا هذه الإرادة الشعبية ما تمكنت السلطة من إعادة بناء الجيش وتحقيق الانتصارات فى سنوات حرب الاستنزاف.

الأمر ذاته امتد لما قبل حرب أكتوبر 1973، فالتأييد الشعبى للرئيس أنور السادات كان على أمل تحقيق حلم الحرب وتحرير سيناء، وكان الرأى العام مع خيار الحرب منذ البداية، وهنا كانت القيادة السياسية تلجأ إلى خيار التأجيل عاما تلو الآخر على أمل الانتهاء من الاستعدادات الحربية ما يعرضها لمزيد من الضغوط الشعبية، وهذه الضغوط الشعبية التى أعطت السادات تفويضا مفتوحا لدخول الحرب، تم استثمارها فى خطة الخداع الاستراتيجى لإقناع العدو الإسرائيلى أن القاهرة لا ترغب فى الحرب على المستوى الرسمي، وهو ما تكلل بنجاح خطة حرب أكتوبر التى أظهرت التناغم بين السلطة والشعب فى تحقيق ملحمة العبور والانتصار.

وتحقق مثل هذا الاصطفاف فى قضية استرداد طابا من الاحتلال الإسرائيلي، فهنا ظهر التكاتف بين مختلف الكفاءات المصرية بالتوازى مع القيادة السياسية التى تمسكت باسترداد آخر شبر من الأرض المصرية، فلأول مرة نرى رجال الدبلوماسية يعملون مع خبراء فى القانون والتاريخ والجغرافية والعسكريين من أجل إثبات الحق المصرى فى طابا، وهو ما تجلى فى إعداد ملف يضم جهود مختلف التخصصات المصرية وضع أمام المحكمة الدولية التى جاء حكمها النهائى بأحقية مصر بطابا عام 1989، وهنا تحقق الانتصار القانونى بعد عملية بحث معمقة شاركت فيها مختلف كفاءات مصر لجمع الوثائق والخرائط المحفوظة فى أرشيف الدولة المصرية، وسط دعم شعبى كبير.

وتؤكد الدكتورة لطيفة محمد سالم، أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة بنها، هذه الروح المصرية قائلة لـ "آخرساعة"، إن الشعب المصرى ينطبق عليه مقولة "شعب مالوش كتالوج"، وأضافت: "فى أحيان كثيرة تتعالى الانتقادات ومشاعر الاستياء لكن فى لحظة معينة وعند اشتداد الأزمات أو خطر ما تجد أن ناقوس الخطر يقرع، وأن الأغلبية تتحد لمواجهة الخطر، وهذا هو درس التاريخ الأبرز الذى نتعلمه من التاريخ المصري".

وأشارت لطيفة سالم إلى أن المقاومة المصرية تتخذ أكثر من شكل "فخلال حقبة الاحتلال الإنجليزى كانت مصر لها ريادة وقيادة فى المنطقة العربية، خصوصا بعد ثورة 1919 التى ألهمت شعوب المنطقة، وأطلقت قدرات مصر الثقافية والحضارية بالتوازى مع خط مواجهة الاستعمار والمطالبة بالجلاء، وهذا أمر غريب أن يتم الاقتران بين الخطين، وهذه ظاهرة غريبة تكشف قدرات مصر وشعبها، لذا مصر لا تقع رغم محاولات البعض الفاشلة من الخارج والداخل، وهو ما نجده فى واقع مصر التى تمكنت بعد ثورة 30 يونيو من النهوض وتحقيق إنجازات كبيرة وباتت القاهرة محل احترام دولي".

ويتفق الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، مع هذا التحليل حول الخصوصية المصرية التى تجعل من أبناء وادى النيل صورة متجسدة لفكرة العنقاء، إذ يقول: "هذا واقع تاريخى يأتى من استقراء التاريخ المصرى عبر سبعة آلاف سنة، فنرى أن الشعب المصرى دائما ما يتعرض لتحدٍ يعقبه استجابة وفقا لنظرية "التحدى والاستجابة" للمؤرخ البريطانى أرنولد توينبي، التى تقوم على أن الشعوب تقابلها تحديات فى طريقها لصناعة الحضارة، فتكون الاستجابة إيجابية فتزدهر الحضارة أو سلبية تؤدى لتدهور الحضارة، وهنا نرى أن الشعب المصرى يقدم دوما استجابة إيجابية تأتى فى الوقت المناسب".

وتابع: "نستطيع التحدث عن سمات واضحة فى الشخصية المصرية التى تفسر الكثير من محطات تاريخنا، من هذه السمات أنه شعب صابر ويصبر لفترات طويلة لدرجة أنه يخيل للآخرين أنه مات، لكن هذا الصبر ينفجر فى صورة ثورة تغير الأوضاع سواء كانت استعماراً أو طغيان حاكم، ونحن أمام سلسلة من الوقائع التاريخية الكبرى التى تفسر شخصية هذا الشعب المصري، فمثلاً عندما ساد الفساد والظلم فى مصر نهاية الدولة القديمة، وكان يبدو للمراقب أن هذا الشعب جلب على القهر والعبودية، جاءت أول ثورة اجتماعية فى التاريخ البشرى ضد الملك بيبى الثاني، وهى ثورة سبقت إلى العقد الاجتماعى قبل أن يأتى به جان جاك روسو".

وأشار شقرة إلى أن الشعب المصرى ضرب أروع الأمثال بعد نكسة 1967، فلم ينكسر بل نهض وأزال نتائج العدوان وأنجز ملحمة إعادة البناء، بل إن الشعب أصاب العالم بالدهشة بانحيازه للحاكم المهزوم ويطالبه بالاستمرار لأنه شعر أن عبدالناصر ينحاز للشعب ومصالحه، وأنه يعمل من أجل مستقبل المصريين جميعاً، وهو مشهد أصاب المحللين الغربيين بالشلل، الذين توقعوا أن يخرج الشعب للمطالبة بعزل عبدالناصر، فالعكس ما حدث فى تظاهرات 9 يونيو، إذ طالب الشعب باستمرار عبدالناصر سعيا للثأر من إسرائيل، وهو ما حدث فى حرب الاستنزاف ثم فى نصر أكتوبر 1973، وهذه التجربة وجدناها فى أكثر من لحظة فى تاريخنا، فمثلا موقف الشعب المصرى عندما أدرك خيانة جماعة الإخوان وأنها سرقت ثورة 25 يناير 2011، لتحقيق مصالح الجماعة وليس مصالح مصر، هب الشعب وأنجز ثورة 30 يونيو 2013، ضد الفاشية الدينية، فهذه هى طبيعة الشعب المصري".

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة