محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار| من حكايات النهر

محمد السيد عيد

الأحد، 06 يونيو 2021 - 07:50 م

النهر طبعا هو نهر النيل. وكان من الطبيعي أن يصير محوراً لحكايات وروايات لا تنتهي، نروي بعضها اليوم.

من أقدم أساطير الدنيا أسطورة إيزيس وأوزيريس، وهي أسطورة تعبر عن حياة المصريين القدماء وديانتهم ومعتقداتهم، وهي في الوقت ذاته وثيقة الصلة بالنيل،,‬ وتبين ارتباط المصريين بالنهر منذ أقدم العصور.

كان ياما كان،,‬ منذ آلاف السنين‭،‬ رجل اسمه أوزيريس،‬ يعيش على ضفاف النيل،‬ قبل أن يعرف المصريون الزراعة‭،‬ ولا الاستقرار. كان الرجل عازفاً ماهراً على آلة الناي التي صنعها من الغاب المنتشر على ضفاف النيل. أعجب الناس بصوت الناى‭،‬ تجمعوا حول أوزيريس يستمعون لعزفه. طلب بعضهم منه أن يعلمه العزف. لم يبخل عليهم. أحبه الناس. قال لهم حين ألفوه: لماذا لا تزرعون الأرض؟.

سألوه: وماذا تكون الزراعة؟

قال: سأعلمكم

وأمسك الفاس وعلمهم الزراعة‭,‬ وأمسك الناى وغنى لهم أغانى جعلتهم يحفظون قواعد الزراعة‭,‬ وهكذا كان المصريون أول من عرف الزراعة فى الدنيا‭,‬ وعنهم أخذها الآخرون‭,‬ فكان فضل مصر على الإنسانية كبيراً. بعد أن زرع المصريون الأرض أراد كل منهم أن يعيش بجوار زراعته ليرعاها‭,‬ فقال لهم أوزيريس: سأعلمكم بناء البيوت. ولم يلبث المصريون أن بنوا البيوت واستقروا على ضفاف النهر‭,‬ وبدأت قصة الحضارة المصرية‭,‬ فى أحضان النيل.

تقول الأسطورة إن أوزيريس كانت له زوجة جميلة‭,‬ مخلصة‭,‬ اسمها إيزيس‭,‬ وأخ شرير اسمه "ست". كان ست يرتبط بالصحراء والإصفرار والجفاف‭,‬ لذا حقد على أخيه الذى ملأ وادى النيل خضرة وعمراناً. تآمر عليه. وضعه فى تابوت وألقاه فى النهر‭,‬ أخذه النهر إلى البحر المتوسط‭,‬ وأخذه البحر إلى مدينة ببلوس فى بلاد الشام‭,‬ فعلم أهلها الزراعة والحضارة‭,‬(مما يبين أثر المصريين فى حضارة الشام)‭,‬ لكن إيزيس لم يرضها ما فعله ست بزوجها‭,‬ فسعت وراء التابوت حتى عثرت عليه‭,‬ ووجدت زوجها‭,‬ وأعادته لمصر.

عاد أوزيريس ينشر الخير‭,‬ ويعلم الناس‭,‬ ومرة أخرى تآمر أخوه عليه‭,‬ قتله. مزق جسده. ألقى كل جزء منه فى مكان‭,‬ أما عضو التذكير فألقاه فى النيل‭,‬ وبعدها صار النيل كأنه الذكر الذى يخصب الأرض الأنثى عند كل فيضان. وصار أوزيريس رمزاً للخير‭,‬ وعبده المصريون قبل أن تنزل الأديان‭,‬ فى حين كرهوا أخاه ست واعتبروه رمزاً للشر‭,‬ ولكل الطامعين فى مصر الحاقدين عليها.

حملت إيزيس من زوجها‭,‬ وضعت ولداً ذكراً‭,‬ سمته "حورس". ربته على الثأر لأبيه المغدور‭,‬ وكبر حورس‭,‬ تعلم أن الحق يحتاج لقوة تحميه‭,‬ وكانت أمه قد أحضرت له من يعلمه فنون القتال‭,‬ فخاض حورس المعارك الباسلة ضد عمه‭,‬ ليستعيد حق أبيه‭,‬ فسماه المصريون المنتقم لأبيه‭,‬ واعتبروه رمزاً للمقاتل المصرى الذى يسترجع الحق الضائع فى كل العصور‭,‬ وصوروه فى صورة صقر. وكان النيل شاهداً على صراعه من أجل استعادة الحق.

هذه هى أقدم أسطورة فى التاريخ المصرى‭,‬ تبين لنا بوضوح قدم الحضارة المصرية التى يزيد عمرها على سبعة آلاف عام‭,‬ وارتباطها بالنيل‭,‬ وأن الحق يحتاج لقوة تحميه.

حكاية قرآنية

لم يحكِ القرآن الكريم عن نهر من أنهار الدنيا مثلما حكى عن نهر النيل‭,‬ ولعلنا نذكر سورة يوسف وكيف صور القرآن فيها موضوع جفاف النيل الذى ضرب مصر فى العصر القديم‭,‬ واستعانة فرعون بيوسف لمواجهة الأزمة. هاهو يوسف عليه السلام يقف مع رسول فرعون الذى جاءه فى السجن ليقص عليه حلم سيده‭,‬ ويطلب منه تفسيراً له:

قال الرسول: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفتِنَا فِى سَبعِ بَقَرات سِمَان يَأكُلُهُنَّ سَبعٌ عِجَاف وَسَبعِ سُنبُلَتٍ خُضر وَأُخَرَ يَابِسَت لَّعَلِّي أَرجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُم يَعلَمُونَ.

قالَ يوسف: تَزرَعُونَ سَبَع سِنِينَ دَأَبا فَمَا حَصَدتُّم فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلا مِّمَّا تَأكُلُونَ، ثمَّ يَأتِى مِن‭ ‬بَعدِ ذَلِكَ سَبع شِدَاد يَأكُلنَ مَا قَدَّمتُم لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلا مِّمَّا تُحصِنُونَ‭,‬ ثُمَّ يَأتِى مِن بَعدِ ذَلِكَ عَام فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعصِرُونَ.

وحين سمع المَلِكُ من  بِهِ أَستَخلِصهُ لِنَفسِي.

فَلَمَّا جاءوه به وكَلَّمَهُ قَالَ: إِنَّكَ ليَومَ لَدَينَا مَكِينٌ أَمِين

فقَالَ له يوسف: جعَلنِى عَلَى خَزَآئِنِ لأَرضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيم

فى هذه السورة أقدم إشارة لجفاف النيل فيما أعلم. ولعلنا لاحظنا أن يوسف سمى مصر "خزائن الأرض". والمهم أن النيل كان على مر العصور قضية وجود بالنسبة للمصريين‭,‬ وحين كان يجف كان المصريون يعانون الموت والمجاعات ويعيشون معيشة ضنكاً.

حكاية عروس النيل

يحكى المؤرخون أنه بعد فتح عمرو بن العاص لمصر‭,‬ جاءه المصريون فى شهر بؤونة (من شهور السنة القبطية ويقابل شهر مايو من شهور السنة الميلادية) وقالوا له:

إن فيضان النهر يبدأ دائماً فى هذا التوقيت‭,‬ لكنه لم يبدأ هذا العام حتى الآن.

وبعد؟

إن لنا عادة نقوم بها كل عام ليفيض النيل.

ماهي؟

إنه إذا كان لثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر‭,‬ فأرضينا أبويها‭,‬ وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون‭,‬ ثم ألقيناها فى النيل حتى يفيض ويجود بالخير.

عروس حقيقية؟!

بنت من بناتنا‭,‬ نختارها بأنفسنا‭,‬ ونراعى أن تكون جميلة.مستحيل.

لم؟

هذا لا يكون فى الإسلام أبداً. الإسلام لا يضحى بأرواح الناس إلا بحقها.

لكن النيل لم يأتِ حتى الآن.

ولو.

وهذه عادة مجربة.

إسمعوا لى جيداً يا أهل مصر‭,‬ إن الإسلام يهدم ما قبله. ولا يمكن أن أقبل بإزهاق روح بهذه الطريقة مهما كانت الأسباب.

والعمل؟ أنت لا تعرف معنى ألا يأتى النيل. إن عدم مجيئه يعنى كارثة لكل المصريين.

سأكتب للخليفة عمر بن الخطاب أسأله عن رأيه فى هذا الأمر.

وأرسل عمرو بن العاص للخليفة يسأله المشورة. قرأ عمر رسالة واليه على مصر. وكتب له الرد:

"قد أصبت يا عمرو. إن الإسلام يهدم ما قبله‭,‬ وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النيل إذا آتاك كتابي"

وفتح عمرو البطاقة التى أمره أمير المؤمنين بإلقائها فى النيل‭,‬ فإذا فيها:

"من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر

أما بعد..

فإن كنت تجرى من قِبَلك فلا تجرِ‭,‬ وإن كان الواحد القهار الذى يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك"

وألقى عمرو الرسالة فى النيل وسط مخاوف المصريين الذين كانوا يتأهبون للخروج من مصر قبل أن تهلكهم المجاعة‭,‬ وإذا بالنيل فى اليوم التالى يتدفق‭,‬ فرجع الناس عن الرحيل‭,‬ وزرعوا وحصدوا‭,‬ وانتهت الأزمة.

يقول المؤرخون المعاصرون إن هذه القصة لم تحدث‭,‬ وإن المصريين القدماء لم يعرفوا التضحية بالبشر‭,‬ ورغم أن القصة بها أشياء غير معقولة‭,‬ إلا أن المؤكد أن المصريين كانوا فى يوم وفاء النيل من كل عام يقدمون للنيل عروساً‭,‬ لكنها لم تكن عروساً حقيقية‭,‬ بل كانت عروساً من طين النهر‭,‬ وظلت هذه العادة موجودة حتى العصر الحديث.

كان المصريون يحتفلون بعيد وفاء النيل فى الثامن عشر من شهر توت‭,‬ (من شهور السنة القبطية‭,‬ ويقابله شهر أغسطس من شهور السنة الميلادية). وكانوا يقيمون عادة سداً ترابياً عظيماً فى منطقة الخليج أمام جزيرة الروضة‭,‬ فى موعد محدد‭,‬ ويحتفلون بإزالة السد فى هذا اليوم‭,‬ وأمام السد بستين قدماً كانوا ينصبون العروس. وقد وصفت الاحتفال والعروس وصفاً تفصيلياً فى كتابى "الوحدة الوطنية: قصة إبداع مصرية"‭,‬ ولولا الإطالة لذكرت تفاصيل هذا الاحتفال‭,‬ لعل الأجيال الجديدة تعرف ماذا كان يمثله النيل فى حياة المصريين على مر العصور.

مقياس النيل

اهتم المصريون اهتماماً كبيراً بمقياس النيل‭,‬ لأن حياتهم تتوقف على قدر المياه القادمة أثناء الفيضان‭,‬ ولأن الضرائب كانت لا تحصل ما لم يصل النيل لستة عشر ذراعاً‭,‬ لذلك أقاموا مقاييس النيل منذ العصر الفرعوني. لكنا لن نحكى التاريخ الطويل لمقاييس النيل‭,‬ وسنروى فقط قصة مقياس النيل الموجود فى جزيرة الروضة حتى الآن. ها هو رسول يأتى من الخليفة المتوكل العباسى فى بغداد‭,‬ سنة سبع وأربعين ومائتين‭,‬ لواليه على مصر: عبد الله التركي. قال عبد الله مرحباً بالرسول: − أهلا برسول مولانا أمير المؤمنين.

أهلاً بك ياحضرة الوالي. أرسلنى إليك الخليفة برسالة محددة.

مولانا الخليفة يأمر.

يقول لك: إن مقياس النيل الحالى الموجود فى جزيرة الروضة لا يفى بالحاجة‭,‬ فلتنشيء مقياساً جديداً كبيراً‭,‬ يمكنكم من معرفة حال النيل طوال العام‭,‬ ويكون ميزان عدل بينكم وبين الرعية فى تقدير الخراج.

كلام مولانا المتوكل أمر‭,‬ وسأبدأ فى إنشاء المقياس فوراً.

وأحضر الوالى المهندسين‭,‬ والحفارين والبنائين‭,‬ وبدأ العمل. حفروا فى عمق الأرض شكلاً أسطوانياً‭,‬ فيه عامود عليه درجات بمقاييس معينة‭,‬ تدل على مقدار المياه القادمة مع الفيضان. وبعد الانتهاء من البناء فكر الوالى فيمن يكون مسئولاً عن المقياس‭,‬ وسأل‭,‬ فدلوه على رجل مشهود له بالصلاح يسمى عبد الله بن أبى الرداد‭,‬ فولاه أمر المقياس‭,‬ وظل أولاده يتوارثون المهنة من بعده جيلاً بعد جيل.

ولأهمية النيل فى حياة الناس‭,‬ كان يصدر كل يوم خبر بحالة الفيضان‭,‬ ولأن وسائل الإعلام الحديثة لم تكن معروفة فقد كان المنادون يقومون بإعلان حالة النيل للناس كل يوم. لكن هذه الوظيفة انتهت بعد ظهور وسائل الإعلام‭,‬ والإعلان اليومى عن زيادة النيل انتهى بعد بناء السد العالى العظيم.

وفى كل عام كان المصريون يقيمون احتفالاً يسمونه "تخليق المقياس" يدهنون المقياس فيه بالزعفران والمسك‭,‬ هاهو ابن أبى الرداد يخلع ثيابه يوم الاحتفال‭,‬ يضع المواد المعطرة فى إناء. ثم يلقى بنفسه فى الماء‭,‬ ويناوله أحدهم الوعاء‭,‬ فيسبح به حتى عامود المقياس‭,‬ ويأخذ من الوعاء ويعطره‭,‬ وخلال هذا يقوم القراء بترتيل القرآن ترتيلاً.

لقد كان النيل دوماً جزءا من حياة المصريين‭,‬ ولا يزال.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة