سلمى قاسم جودة
سلمى قاسم جودة


لحظة وعى

سلمى قاسم جودة تكتب : هوى البحر

آخر ساعة

الأحد، 18 يوليه 2021 - 02:22 م

الزرقة البحرية تتورد بحمرة نيران أنقاض الشمس الغاربة، هى  تتلاشى  فى خضم هول الكائن الأزرق.. هى تموت صريعة اكتمالها.. يلتهمها البحر مثل كل يوم.. تسقط فى خبيئة البيوت المتراصة، المنهكة بفعل الرطوبة والزمن.. الإسكندرية عاصمة الحنين، تلك المدينة البحرية أشبه بالعيد المتواصل، تحتفى بها الروح والجسد.. تنعش الذاكرة العامرة بالنوستالجيا، هواها البحرى المحمل بالملح، العشق والخيال، يشعل الشوق لما كان وما لم يكن، هى مدينة مرصعة بأمجاد الإبداع الإنساني، غوايتها تُسكر الحواس المتعطشة للانطلاق والانغماس فى خفة الوجود.. كتب عنها نجيب محفوظ: «الإسكندرية أخيرا.. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، المغسول بماء السماء وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع».

تراتيل البحر الليلى تناوش المخيلة، وشوشة الأمواج برغوتها الشهباء تضيء قلب الليل.. تصخب وتسكن، تدنو وتبتعد، تخفت وتصدح، تسكب خمرتها الزرقاء، البيضاء تحت إطلالة القمر. الإسكندرية تلك المدينة الكوزموبوليتانية تحاكى الجدارية الأبدية للإبداع الكوني، بحرها المشبع باليود والملح ورائحة الأمكنة المتجذِّرة فى الزمن تشعل الشجن فى أعماقي، البحر هو أشبه بالحضن اللانهائى، أود أن أغرق  فى غياهبه أحمالي، أتأمل فوران الأمواج الشاهقة تصطك بالصخور المكسوة بالسائل الأخضر ليحاكى الزمرد والبحر المرصع بموديلات محمود سعيد، سلفادور دالي، ماجريت، بغانيات نجيب محفوظ، ريرى بنت الأزقة المعتمة، المتغضنة المسكونة بالرغبة والضياع فى «السمان والخريف»، كريمة فى «الطريق» النبتة الشهوانية المعربدة من أغوار النبى دانيال تفجر اللذة المفضية إلى الجريمة أقرب إلى عروس البحر الشيطانية وزهرة فى «ميرامار» الريفية، المليحة كادت تضيع فى أتون الغواية البحرية، بحر الإسكندرية المرصع بعوالم لورانس داريل فى «رباعية الإسكندرية» التى جنحت إلى التغريب وهى هنا مدينة حسية، إيروتيكية تتنفس الهوى، هنا تضوى أشعار كفافيس، أمل دنقل، إحسان عبدالقدوس سطر فى «البنات والصيف»: «ومنذ كانت طفلة وهى تقضى كل صيف فى الإسكندرية.. وكانت تفرح بالصيف لأنها تتحرر من واجباتها المدرسية.. ثم كبرت وأصبح الصيف معرضا تعرض فيه جمالها.. تعرضه على شاطئ جليم، عندما  كان «جليم» شاطئ الأرستقراطية وفى حمام السيدات، وفى كازينو سان ستيفانو كان الصيف شهر الغزل والحب، والحرية والجمال.. وقد تعودت أعصابها على أن تنتظر كل صيف، كأنها فى انتظار الغزل والحب، والحرية، والجمال».

البحر بالنسبة لى هو هيمنجواى «موبى ديك» لميلفيل، قلعة إيف فى «الكونت دى مونت كريستو» لألكسندر دوماس.

أنا الآن أصعد السلم المنحوت فى الصخور المقام فوقها بناء نادى السيارات بسيدى بشر، أرتد إلى طفولتى أنا مع جدتى سيدة شاهقة الجمال، فادحة الصرامة، شقراء لها نظرة تشع منها زرقة خضراء بحرية تبث الجمال والرهبة فى آن مثل البحر  تماما، ألتهم معها الأيس كريم صودا محلى بشربات الورد القاني، الزاعق، رذاذ الماء، صراخ الصبية، الشماسى  الملونة تحاكى الفراشات ذات التقليمة الموحية بالبحر أزرق وأبيض، أصفر وأبيض، الوردى  والأبيض أشبه بكئوس جيلاتى جروبى آنذاك، عالم جدتى وصديقاتها اللاتى قليلا ما يتكلمن العربية، يلعبن البريدج والورق، يتقن النميمة والثرثرة المغلفة بخدر الهواء البحري، أحاول فك شفرة النميمة وكأنها كلمات متقاطعة، نقطة عصية على طفولتي، تحت المظلة هناك هاربة من سطوة الشمس الحارقة تجلس زوجة النجم الاستثنائى أحمد مظهر هى رائعة الجمال.

تحاكى الدمية باربي.. طفولتى بين بيانكى فى العجمى وهو الذى أنشأ المنطقة الصديق الحميم لعائلتي، والبوريفاچ العجمى، هى بمثابة الفردوس المفقود بالنسبة لي، الحياة حلوة، وردية، الحياة بدائية، أنا وصديقتى صباح الطفلة البدوية نرقد وسط أعواد البوص الشقراء وهى تحاكى شعر صباح الأشقر، الأصهب الجامح، الجاف، نرقب تحركات الغجريات يحملن «القفف» المكتظة بالودع يهتكن الطالع، ينثرن الخوف فى الهجير والأصيل.. فيما بعد فندق البوريڤاچ بلوران بوتقة الفن، الجمال والرقي، جزء كبير من أروع الأفلام السينمائية صُوِّر فى أرجائه (حبى الوحيد)، (موعد غرام)، (مراتى مدير عام)، (الزوجة رقم ١٣)، أنيس بك سلامة مالك البوريڤاچ يسكن دوما ذاكرتى وهو أيضا صديق لأسرتي، حجرات الفندق تحاكى لوحات هوبر، فالأثاث (روستيك) وأذكر دوما الشرفة المطلة على البحر ألمس الدرابزين المبلل بالندى والرطوبة أطرب لما ألمسه، لونه الأخضر الزيتى تتشبث به ذاكرتى ليظل هذا اللون عالقا بحواسى له مرجعية فاتنة.. الأمكنة هناك تكاد لا تغادرها، لا الأزمنة ولا الأشخاص، التريانون أتينيوس، ديليس، سيسيل، المنتزه، المعمورة، سان ستيفانو، زفيريون، مقهى بترو هناك يجلس فى هجير النهار ثروت أباظة، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، وعبدالرحمن الشرقاوي، وأخيرا كلمات أمل دنقل، «أعشق اسكندرية، واسكندرية تعشق رائحة البحر، والبحر يعشق فاتنة فى الضفاف البعيدة، كل أمسية تتجرد من ثيابها وتحل غدائرها ثم تخرج عارية فى الشوارع، تحت المطر، فإذا بلغت حافة البحر ألقت بفتنتها فى سرير التنهد والزرقة، انطرحت فى ملاءاته الرغوية.. قلت لها فى الليلة الماطرة، البحر عنكبوت وأنت فى شراكه فراشة تموت فانتفضت كالقطة النافرة..».

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة