رحلة فوق رمـــــــــــال ملتهبة وعبر صحراء مترامية
رحلة فوق رمـــــــــــال ملتهبة وعبر صحراء مترامية


كنوز الأميرة

الحج.. سيرا على الأقدام!

آخر ساعة

الثلاثاء، 20 يوليه 2021 - 10:15 ص

قراءة: أحمد الجمَّال

مثل سياحة المغامرات، كانت فى «آخرساعة» صحافة مغامرات، وها هى مهمة عملٍ كان يقوم بها الكاتب الصحفى الراحل مصطفى شردى (1935-1989) قبل نحو 52 عاماً، وفى الطريق بين أبوظبى ودبي، ووسط الدروب الوعرة رصد مع زميله المصور محمد بدر، قافلةً تشق الصحراء فى طريقها لأداء مناسك الحج بالأراضى الحجازية.. وكان اللافت أن القافلة بدأت رحلتها من باكستان قبلها بعامين سيراً على الأقدام، وفى الأثناء توقفوا للعمل لكسب المال وشراء مجموعة من الجمال ثم واصلوا الرحلة بإصرار وقلوب عامرة بالإيمان.. فى السطور التالية نعيد نشر هذه المغامرة الصحفية بتصرفٍ محدود:
 

فوق رمال ملتهبة كجمر النار، وعبر صحراء مترامية تكاد رهبتها تخلع القلب، كانوا ينطلقون فى سلام يسبحون اسم الله.. وبين الحين والآخر ترتفع أصواتهم بالتكبير والتلبية.


إنهم من «البلوش» آخر الجماعات الإسلامية التى ما زالت تحج إلى بيت الله فى مكة المكرمة فوق ظهور الجمال.. ينطلقون بزوجاتهم وأطفالهم ومعهم طعام قليل وإيمان كثير.. يقودهم دليل يكاد يلم بمعالم الطريق.
وجوههم فرحة مستبشرة وصدورهم عامرة بالإيمان العميق.. لا تخالج قلوبهم نبضة خوف من طريق مجهول يخترق المنطقة الشمالية من صحراء الربع الخالى.. وكل خطوة تضاعف من سعادتهم.. فهى تقربهم من بيت الله العتيق ومن قبر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.


كانت السيارة تتواثب بنا فى الطريق الجبلى الوعر بين «أبوظبي» وإمارة «دبي».. وكان الإنهاك وتعب العمل المتواصل خلال أيام ثلاثة قد جثم ثقيلاً فوق أجفاننا.. ولكن فجوات الطريق العنيفة كانت تشد أعصابنا بقسوة، وترغم عيوننا على أن تظل نصف مفتوحة بين النوم واليقظة.
ورأيتهم فى الأفق.. قافلة من الجمال تنطلق تجاه الغرب.. وفوق الجمال وحولها رجال فى أيديهم عصى طويلة يستعينون بها على السير فى الرمال. وسمعت نفسى أسأل أحمد سائق السيارة الذى كان يكافح الطريق: «من هؤلاء؟».


وصوّب أحمد إلى يساره نظرة خاطفة، ثم عاد يركز بصره على الطريق الخطر وهو يقول: «هؤلاء هم (البلوش) الذين يحجون إلى بيت الله فوق الجمال، وسيراً على الأقدام، ويخترقون صحراء السعودية إلى مكة.. وطار النوم ونظرت إلى المقعد الخلفى حيث كان الزميل محمد بدر (المصوّر الفوتوغرافى)، فوجدته يستمع إلى كلمات السائق متحفزاً.. وقلنا فى وقت واحد: «قف»!
ثم نزلنا وعبرنا الطريق، وغاصت أقدامنا فى الرمال ونحن نهرول تجاههم.. كان عددهم حوالى خمسين شخصاً، ومعهم أقل من عشرة جمال، واقتربنا منهم أكثر ورأونا، لكنهم لم يتوقفوا عن سيرهم، فأوسعنا الخطى حتى أدركناهم.


وجوههم نحيلة سمراء، وفوق رؤوسهم عمامات ذات ألوان صارخة، وفى أيدى معظمهم مسابح تجرى حباتها بين أصابعهم.. معظم النساء كن فوق ظهور الجمال معهن الأطفال الصغار، وبعض الفتيات يسرن على جانبى القافلة، بينما كان الرجال جميعاً يسيرون على الأقدام.. وقد حمل بعضهم أطفالاً صغاراً فوق أكتافهم.. والجميع يجدون فى السير السريع محاولين اللحاق بخطوات الجمال الواسعة!
نظروا إلينا فى قلق وهم مستمرون فى السير، قلت لهم: «السلام عليكم ورحمة الله». تلاشى نصف القلق من فوق وجوههم.. وردوا: «وعليكم السلام»!
قلت: «نحن صحفيون من مصر.. هزوا رؤوسهم دلالة على عدم الفهم.. ثم التفتوا يستغيثون برجل قصير القامة كان يتقدم إلينا.
جاء الرجل وقال: «السلام عليكم». قلت: «وعليكم السلام.. نحن صحفيون من القاهرة»، ولم يبد عليه الفهم! حاولت أن أفهمه باللغة الإنجليزية ولكنه قاطعنى قائلاً: «إننى أتكلم العربية ولا أعرف الإنجليزية، ولا أفهم ماذا تقول».
قلت: «ألا تعرف الصحف.. الجرائد.. المجلات.. التى تنشر الصور والأخبار؟». فهز الرجل رأسه قائلاً: «لا.. لا أعرف ما هى الصحف»!
قلت: «لا يهم.. أريد أن أعرف اسمك». قال: «لماذا؟».
قلت: «أنا اسمى مصطفى، وهذا زميلى محمد.. ما اسمك؟».
وكأنما نطقت سحراً.. تههل وجه الرجل، وذاب منه التوتر والقلق.. والتفت إلى رفاقه وصاح: «هذا مصطفى.. وهذا محمد»!
وامتدت عشرات الأيدى تصافحنا بقوة، وارتسمت البسمات على كل الوجوه، وكشفت إحدى الزوجات عن وجهها من فوق الجمل تنظر إلينا، ولكنها عادت تخفيه بوشاح ألوانه زاهية عندما شاهدت عدسة محمد بدر تتجه إليها.


قال الرجل إن اسمه أحمد بن علي، وأنه زعيم هذه الجماعة الذى يبلغ عدد أفرادها 63 فرداً.. إنهم جميعا أقارب.. من أبناء باكستان، وبالتحديد من بلوشستان، ويسمونهم فى منطقة الخليج العربى (البلوش). 
وقال: إنهم جميعا يشتغلون بالزراعة.. فى موطنهم الأصلى.. ومنذ عامين قرروا الخروج إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
سألته: «لماذا لا تحاولون أداء فريضة الحج بوسيلة أسهل.. إن فى العالم اليوم سيارات وبواخر وطائرات نفاثة.. وفى هذه اللحظة.. يوجد رجال يطوفون حول الأرض فى سفن فضاء.


قال الرجل وهو ينظر إلى الفضاء: أين؟ ثم هز رأسه وعاد يقول: «نحن نفضِّل هذه الوسيلة.. إننا فقراء لا نملك المال اللازم الذى ندفعه للسفر بالطائرة أو الباخرة لكل هذا العدد.. إن الرسول الكريم كان يركب الجمال».


قلت: «لأن الجمل كان أسرع وسيلة انتقال فى ذلك الوقت».. فسكت الرجل قليلاً ثم قال: «منذ حوالى عامين، قطعنا جزءاً من صحراء باكستان وجزءاً آخر من صحراء إيران.. سيرا على الأقدام.. ثم ركبنا زورقاً عبر الخليج العربى إلى إمارة دبي، وكنا فى حاجة إلى نقود حتى نستعد لرحلة الحج، فاشتغلنا فى ميناء دبى لمدة عام ونصف العام، فى عمليات شحن السفن وتفريغها، وكنا نقتصد كل ريال نحصل عليه حتى نشترى هذه الجمال.. وقد دفعنا فى الجمل الواحد حوالى خمسين ديناراً، ثم بدأنا رحلتنا».
ـ وكيف تعرفون الطريق؟
قال الرجل باسماً:
ـ الله يرشدنا.. ومعنا دليل.
وتقدم شاب قصير نحيل ضاحك الوجه ليصافحنى وقال:
ـ أنا الدليل.. أنا أعرف الطريق.. وأعرف أماكن آبار المياه فى الصحراء.. وأعرف كل شيء فيها.. فقد سبق أن قمت بمثل هذه الرحلة منذ 5 سنوات.
قلت فى ذهول: «مرة واحدة، ومنذ 5 سنوات؟! إن معالم الصحراء تتشابه، وكثيراً ما تتبدل، إن الرياح تحرك تلال الرمال من مكان إلى آخر.. كيف تعرف معالم الطريق؟».
ضحك وقال: «مرة واحدة كافية لي.. إننى واثق من معرفة الطريق.. ولن نضل أبداً لأن الله يرعانا.. إننا نسير دائماً إلى الغرب مع ميل إلى الشمال».


ـ وكيف تعرف الشرق والغرب.. هل معك بوصلة؟
ـ بوصلة؟!.. إن الشمس تساعدنا دائما.. وبها أعرف الطريق.
ثم أمسك بيدى وسأل: «ما هى البوصلة؟».
ولم أرد عليه.. والتفتُ إلى أحمد بن على قائد الجماعة، وسألته: «هل أنت واثق أن هذا الرجل يعرف الطريق؟ ويعرف أماكن الآبار جيداً؟».


فابتسم وقال: «إن اعتمادنا ليس على هذا الرجل.. اعتمادنا على الله.. إننا الآن نمر بصحراء أبوظبى من أولها لآخرها.. والشيخ زايد بن سلطان حاكم أبوظبى يسمح لنا بهذا.. يسمح لنا بأن نشرب من الآبار.. لقد كان عدد الآبار فى صحراء أبوظبى قليلاً فى الماضي.. ولكن أقاربنا الذين قاموا بهذه الرحلة فى العام الماضى قالوا لنا إن الشيخ زايد أمر بحفر مئات الآبار فى كل مناطق الصحراء وحتى حدود السعودية.. ومسموح لنا بأن نشرب من هذه الآبار.. ونُشرِّب جمالنا أيضاً.. وكما ترى لا يوجد خوف من شيء.. الله يرعانا».
قلت: «لكنكم بعد الخروج من حدود أبوظبى ستدخلون المنطقة الشمالية من صحراء الربع الخالى وهى مخيفة جداً والماء فيها نادر». فقال الرجل وابتسامة الثقة على شفتيه: «لا تخف، إننا نحمل احتياطياً من الماء، وهذه الجمال تشرب مرة كل أسبوع فى الصحراء.. انظر.. هذا هو احتياطى الماء».. ودق بيده على صفيحة صغيرة من النوع الذى يستعمل فى تعبئة زيوت السيارات.. صفيحة سعتها أقل من جالون كانت معلقة على جانب الجمل.. وكان كل جمل يحمل واحدة مماثلة!.. ولم أجد ما أقوله أمام إصرار الرجل وإيمانه.. وترَكَنا الدليل وأسرَع إلى مقدمة القافلة التى كانت تنطلق نحو قرص الشمس المنحدر إلى المغيب.. وقال لى واحد من رجال القافلة اسمه على حسن: إن قوافل أخرى تفشل فى اختراق حدود السعودية لأن حرس الحدود هناك يلتقون بهم فيعيدونهم على أعقابهم، وقال أيضاً: «إن مثل هذه القوافل لا بد أن تخترق الحدود خلسة بعيداً عن أنظار حرس الحدود، ورغم أن قوافل كثيرة تعود حزينة لفشلها فى تحقيق الأمل، فإننا لا نتعب من تكرار المحاولة»!


توقفنا عن السير الذى أرهقنا رغم أنه لم يتجاوز نصف ساعة! ولوّحنا لهم مودعين.. وابتعدت القافلة عنا.. تنساب فى الوديان وشعاب الجبال.. وأقدام رجالها تغوص فى رمال الصحراء النظيفة شديدة النقاء.. تماماً مثل قلوب الرجال الذين يسيرون عليها.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة