عندما نتأمل تاريخ الحضارات البشرية على مر العصور كما جاءت فى موسوعة "قصة الحضارة" للمؤرخ الامريكى ويل ديورانت.. نكتشف انها تعود فى مجملها لعامل اساسى واحد هو "الروح المعنوية الجماعية".. والتوافق الاجتماعي.. وشعور الامة نحو نفسها.. وتصورها الملهم لما يمكن ان يكون عليه مستقبلها.. ومكانتها الفريدة بين شعوب عالمها.
وبالتالى فإن الخطوة الاولى نحو بناء اى حضارة.. تبدأ عندما.. يتم التوافق والتناغم الاجتماعي.. وتشكيل الهيئة التى توحد الصفوف.. وتقرب بين المبدعين فى جميع فروع المعرفة.. بالشكل الذى يسمح للامة بالنهوض.. وتشييد المجد.. والارتقاء بانماط الحياة.. ولم تعرف البشرية ان قامت حضارة واحدة فى ظل اوضاع التمزق.. والصراعات.. وضعف الهمم وموت العزائم.. ودفع الامم للخمول واليأس.. وبالعيش الدون.. المشحون بكل الوان التمزق والاقتتال والحض على الكراهية والانتقام.. الذى يصل الى حد اشتباك اصحاب المذاهب المتصارعة فى اقتتال ـ دائم وشرس.. يصرفهم عن البناء والابداع وايجاد المناخ المناسب لابتكار كل ما هو جديد وفريد فى زمنه وفى مكانه.
وعندما ترتفع الصرخات المدوية التى تدعو لتعميق الخلافات والكراهية.. بين ارباب المذاهب والمعتقدات.. واشاعة ابداء الرغبة فى الانتقام.. الى حد الاقتتال وسفك دماء الابرياء.. تتراجع فى اللحظة ذاتها طموحات الامم وتخفض الى حد القضاء على الآخر وعلى كل اسباب لابداع والتحليق فى سماء العلم والمعرفة.. وتصبح الغلبة للرغبة فى الانتقام والسقوط فى مستنقعات العنف والارهاب والهمجية.
وفى الوقت الذى كان احتفالنا بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام، فرصة سانحة لإبداء كل سمات التسامح بين الاجيال القادمة من شباب المسلمين.. خرج علينا الشيخ محمد عبدالرازق رئيس القطاع الدينى بوزارة الاوقاف معلنا فتح اماكن اضرحة الامام الحسين والسيدتين زينب ونفيسة امام الصوفية والمواطنين اثناء الاحتفال بمولد النبى عليه الصلاة والسلام.. واغلاقها امام الشيعة ولذلك فقد تم اغلاق ضريح الحسين يوم عاشوراء.. على اساس ان هذا هو منهج الازهر فى "محاربة" الفكر والمد الشيعي.. مشيرا الى انه سيتواجد افراد من الاوقاف بالاضافة الى وجود عدد من كاميرات المراقبة والتصوير.. لرصد تحركات المخالفين.
وقال فضيلة الشيخ محمد عبدالرازق فى تصريحات خاصة مفخخة نشرتها الصحف فى صدر صفحاتها:
فتحنا ضريح الحسين للصوفية.. وأغلقناه أمام الشيعة!
وهى دعوة.. نرى انها.. تسعى لبث بذور العداء بين ملايين الاطفال المسلمين فى ربوع العالم.. واشارة لتعميق الخلاف بين الاجيال القادمة.. المنوط بها.. بناء حضارة اسلامية.. توحد امة الاسلام.. ونباهى بها الامم يوم القيامة.. وتنحى شعور المسلمين السلبي.. تجاه انفسهم.. وتعكس المفهوم الخاطيء بان الله سبحانه وتعالى لم يبعث الرسول.. نبيا لكل المسلمين.. وانما هو الرسول لطائفة منهما.. وليس لكل طوائفهم ومذاهبهم.
ومفهوم طبعا اننا لن نستطيع فى المستقبل.. بناء حضارة اسلامية.. بروح جاهلية!
والعجيب فى الموضوع.. انه عندما اصدر الكاتب الامريكى "مارتين سكرام" سنة ٢٠٠٥ كتابه "اسلام ضد اسلام" لم يخطر بالبال ولو من باب الخيال ان يأتى اليوم الذى نشهد فيه ونحن على ابواب عام ٢٠١٦.. العديد من الاشارات السلبية.. لانتقال النزاعات داخل العالم الاسلامى من نزاع تشعله عصابات الارهاب.. ابتداء من القاعدة وفى داعش الى نزاعات بين الدول الاسلامية.. وهى نزاعات لن تسفر عن انتصار احد وانما سوف تعرقل مسيرة التقدم ومواكبة الزمن.. وليس خافيا ان احدى القوى العظمي.. تخطط وتمول وتحرض على اشعال هذه النزاعات من أجل مصالح لا تمت للاسلام بأدنى صلة.. ويخطط لها على وجه التحديد "بنيامين رودس" مستشار الامن القومى للرئيس الامريكى اوباما.. كاتب الخطاب الذى وجههه اوباما للعالم الاسلامى من القاهرة فى يونيو سنة ٢٠٠٩ واستقبله حكامنا ايامها بالوقوف والمزاهر على نمط استقبال سلاطين الدولة العثمانية فى الزمن القديم.. وهو الذى نصحه بزيارة مسجد السلطان حسن.. وعدم الصعود لغرفة الملك خوفو.
وكان الهدف فى كل الاحوال اندلاع نزاعات داخلية فى الدول الاسلامية.. واشتباكات ايديولوجية بين الطوائف والمذاهب المختلفة وبين الجماعات الاسلامية والحكومات وبين المعتدلين والمتطرفين.
والأهم من ذلك كله.. كما يقول مارتين سكرام.
هو ان تتحول التنظيمات الارهابية من استهداف الغرب الى استهداف مصالح الدول الاسلامية.. فى محاولة للسيطرة على السلطة وعرقلة تنفيذ الاصلاح والتطوير فى هذه الدول ودفع الشباب لتفجير انفسهم.. ومعهم كل امل للمسلمين بغد افضل ومستقبل مشرق.
وبالتالي.. فنحن نمر بمرحلة فارقة فى تاريخنا الحديث تقتضى دق كل اجراس التحذير من مغبة القضاء على الروح المعنوية الجماعية لدى شعوب الامة الاسلامية بأسرها.. والاطاحة بكل اسباب التوافق بينها.. وصرفها عن التعاون فيما بينها من اجل رفعة شأن امة من بين الامم التى تأخذ بأسباب العلم.. وتصدر لنا جميع الوان الاجهزة والمعدات الحديثة المبتكرة ابتداء من السيارة.. وحتى رغيف الطابونة الذى نقف فى طوابير ممتدة للحصول عليه ومعه انابيب البوتاجاز.
لقد كشف احتفالنا بالمولد النبوي.. منذ ايام.. ربما للمرة الاولى بمثل هذا الوضوح.. عن حاجتنا العاجلة لقيام مجموعة من العقلاء بنشر الثقافة الاسلامية التى تلم شمل صفوف المسلمين.. وتسمح بالتعاون الايجابى بين الاشقاء من اجل الارتفاع بالروح المعنوية الجماعية لأمة محمد.. والسير فى ركب الامم المتقدمة بالشكل الذى يسمح بقيام حضارة اسلامية حديثة.. يشعر من خلالها اى مسلم فى ربوع العالم.. بأنه شريك اساسى فى البناء والتعمير.. وليس محرضا على التخريب والقتل والتدمير.. فى الوقت الذى يرقبنا فيه الشيطان.. وهو يرقص طربا.