المجنى عليه يشرح بالإشارة تفاصيل ما حدث معه
المجنى عليه يشرح بالإشارة تفاصيل ما حدث معه


حوار بالأشارة l تعذيب فنان تشكيلي من ذوي الهمم

أخبار الحوادث

الأحد، 29 أغسطس 2021 - 02:39 م

محمود صالح 
في أجواء صيفية حارة، وطقس ملتهب، وشمسُ وكأنها تدنو من الرؤوس، تخطت قدمي أرض قرية «طحا بوش» التابعة لمركز ناصر بمحافظة بني سويف بحثًا عن «سيد»، والملقب بـ «الفنان»، أو هكذا يجب أن يٌلقب.


صاحب الـ اثنين وثلاثين عامًا موهبة في الفن التشكيلي قلما يجود الزمان بمثلها، وما يزيد من موهبته أنه من ذوي القدرات الخاصة، أصم وأبكم، لكن هذا لم يمنعه من أن يجتاز كلية التربية النوعية عن تفوق، ولم تمنعه الإعاقة من أن يخطو نحو حلمه، ذلك الحلم الذي راوده صباحًا مساءً، أن يُنظر له بعين إبداعه لا بعين العطف، وأن يؤخذ بموهبته لا بالشفقة، وأن تُعرض لوحاته فى مكان تستحقها ويستحقه.
لكن ما كانت حكاية «سيد» تُعرض للنور وتخرج للعلن إلا بعد أن مر بتجربة مريرة، وقاسية، وهي محاولة خطفه من قبل شابين من أرباب السوابق «سرقة ومخدرات»، والتنمر عليه، وتعذيبه، وإرغامه على توقيع إيصالات أمانة. لكن كانت عناية القدر تحاوط ذلك الشاب الذي لا يحمل فى قلبه إلا الخير، واستطاع بأعجوبة أن ينجو من ذلك متسلحًا بقوته التى لم تضعف، وبعزيمته التى لم تقهر، وبحلمه الذي - كان وما زال - يتشبث به. 
 

داخل بيت بسيط، ينام شاب وديع بعد أن أرهقه السير ذهابًا وإيابًا بحثًا عن حقه، أيقظناه ومعنا الاستاذ «سعيد أبو الخير» أخصائي التخاطب ومترجم لغة الإشارة وصاحب مبادرة «اشارتي رسالتي» لمساعدة الصم والبكم. بدت على ملامح الشاب أنه كان على استعدادٍ لمجيئنا، لكن تعبه طوال هذا اليوم كان سبب غفوته وهو ينتظرنا.
وقبل أن نتحدث فى ما أصابه خرج لمدة دقائق وعاد حاملًا مع شقيقته الطعام لنا، وأقسم علينا «إشارةً» أن نأكل، ومن ورائه أمه دخلت وهى تحمل فى يديها الماء، وتقسم هى الأخرى نفس قسمه، وحتى لا نطيل الحديث جلسنا بصحبته وتناولنا طعامنا.
ما أن فرغنا من الطعام حتى قام قبل أن ينتهى من طعامه وأتى لنا بالشاي، وقتها ورد فى ذهني، ما الجبروت والبطش والظلم الذي عليه هذيّن الشابيّن المدمنيّن حتى يستدرجا شابًا بهذه الوداعة والخلق، ويرتكبان فى حقه جريمتهما النكراء. ولم ينقطع السؤال فى ذهني إلا بعد أن انتهى من ضيافته لنا وبدأ يحكي «إشارةً» تفاصيل ما تعرض له، ومن ورائه يترجم لنا «سعيد».
تطريز
بعد أن تخرج في كلية التربية النوعية بجامعة الفيوم، أكمل «سيد» شغفه تجاه رسوماته، وبدأ فى البحث عن أى وسيلة تساعده فى تحقيق حلمه، وعليه التحق بدورة تدريبية في الحاسب الآلي وطرق التطريز والرسم بالخرز، ومن هنا بدأت الواقعة.
يوم الأربعاء الماضي بحث في محافظة بني سويف عن نوع تطريز معين لاستخدامه فى الدورة التدريبية، ولكن لم يجده، وتذكر فى أنه قد اشترى تطريزًا من مكان ما فى قرية «الرياض - الحافر» بأشمنت التابعة لمركز ناصر، وبالفعل قادته قدماه إلى هناك.
كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة من مساء هذا اليوم وقت أن وقف أمام سوبر ماركت بالقرية، عندها جاءه اتصال هاتفي من شقيقه يطمئن عليه لتأخيره، فأشار لـ شاب بأن يحدث شقيقه ويطمئنه، وبالفعل تحدث الشاب إلى شقيق سيد وطمأنه، وما أن أغلق الهاتف حتى لمعت عيناه، وأدرك بما أن «سيد» أبكم وأصم سوف يسرقه دون أن يُكشف أمره، وما ساعده على ذلك أنه يفهم قليلًا لغة الإشارة، وبها عرف قريته وبعض التفاصيل عن حياته. 
كان هذا الشاب المدعو «عبد الرحمن م.ع» فور أن تحدث مع «سيد» وفهم إشاراته، اتصل على صديق له يُدعى «ماهر م.ح» لكي يحضر فورًا، ولم تمر ثوانٍ معدودات حتى أمسى «سيد» محاطًا بين الشابين. وعليه حاولا أن يستدرجاه إلى شقة أحدهم، أبى فى البداية «سيد» أن يذهب معهما، لكنهما ألحا عليه مدعيين كرم الضيافة، وأنه عيب عليهما أن يذهب دون أن يأخذ واجبه.
ذهب معهما بوداعته دون أن يشك فى تصرفاتهما، وداخل بيت من طابقين صعد معهما إلى الطابق الثاني، وما أن تخطت قدماه عتبة الباب حتى وجد زجاجات من الخمور تملأ الشقة، وبعضٌ من السرنجات المستخدمة وقليلٌ من أوراق الـ «بفرة»، تلك التى يستخدمونها فى تدخين مخدر الحشيش.
فور أن رأى «سيد» ما رأى هم بالعودة إلى حيث جاء، لكن كان أحدهما قد باغته وأغلق الباب دونه، وفى لحظة مفاجئة تكاتف الشابان عليه وبدأ فى ضربه.
 لم يكن يعرف لماذا يُضرب، ولا أى ذنب ارتكبه حتى يُفعل فيه ما يفعل، من لطمات على وجهه، ونغز بالمطواة فى قدمه، وطرقات بـ الشوم على رأسه. وهو بينهما حائر لا يقوى على الصراخ، ولا يحرك ساكنًا. اللهم إلا عيناه فقط مخضبة بالدموع.
إيصالات
على هذه الحالة مرت ساعة، وسيد محاط بين رجلين لا قلب لهما، لم يرحما ضعفه ولا قلة حيلته. سرقا هاتفه وحقيبته بما فيها من أوراق، وبعثراها على الأرض، وعندما وجدا أن سرقته لن يستفيدا منها كما كان يُخيل لهما، أخرج أحدها إيصالات أمانة وحاولا أن يأخذا توقيعه عليها حتى يطالبا فيما بعد بـ المال، وعندما رفض محاولا الهروب منهما بدأ الأثنان فى تهديده بأن جرداه من ملابسه! لكي يصل إليه ما سيُفعل فيه إن هو رفض أن يوقع على هذه الإيصالات.
 لكن لأن الله واهب النعم ومانعها بحكمة لا يعلمها إلا هو، ألهمته قوته فى التصدى لهما وقت أن بدأ فى تجريده من ملابسه، وعندما هم بالصمود أمامهما رفع أحدهما «شومة» كي يضربه به مجددًا، لكن «سيد» تمكن ونزع من يده الـ «شومة» ثم أنزلها على رأسه نزلة أفقدته اتزانه، وقتها بدا على صاحبه الرعب، وانتبه إليه، مما أعطى «سيد» وقتا فى أن يهبّ إلى الشباك ويكسر زجاجه فى محاولة منه لطلب الاستغاثة، وقتها رأى شباك جيرانه موصدًا أمامه، فأمسك زجاجة من زجاجات الخمر الفارغة وأطلقها نحو شباك الجار فأفزعت رب البيت والأسرة.
النجاة
وقتها كان الشاب الذي وقع على الأرض بعد أن أخذ الـ «شومة» على رأسه بدأ يفيق، حاول مسرعًا أن يرش على «سيد» مادة تفقده وعيه، وحاول صاحبه من خلال سكين يمسكه فى يده أن يطعن سيد طعنة تنهى محاولاته المستمرة فى الهرب. لكن كان سيد يدافع عن روحه بكل ما أوتى من قوة، وقبل أن يغيثه الجيران استطاع أن يفلت من بين يدي الشابين فى أعجوبة، وخرج مندفعًا إلى الخارج فى مشهد لا يمكننا وصفه بوصف أقل من عودة الحياة له، بعد ساعتين كانتا بالنسبة له الأشد خطرًا والأكثر معاناة.
أدرك الشابان أن نهاية القصة قد حانت، حاول أحد الجيران  سرًا  إقناع «سيد» إشارةً بأن يبلغ الشرطة، لكن الشاب الذي خرج للتو من أسوأ ساعتين مرا عليه طيلة حياته كان لا يفكر حينها إلا فى أمه، ولا يفكر إلا فى أن يعود إليها، ولأنها إذا علمت بما حدث وهى مريضة السكر ربما سيؤثر ما تعرض له «سيد» عليها.
وعليه مكث يومان كاملان دون أن يخبر أحدا فى البيت بما جرى له، لكن كانت نفسه تضيق ذرعًا من الكتم، وألم قدميه يفكره بما جرى له إن هو حاول أن ينسى، ولم يكن أمامه إلا «سعيد أبو الخير» أخصائي التخاطب ومترجم لغة الإشارة حكى له.
انفصال شبكي
يقول «سعيد» عن تلك اللحظة التى أخبره فيها بما حدث معه: «كان يوم الجمعة يجلس معي كعادته، وقتها سألنى وقال إشارةً : لو حد ظمني أكيد هاخد حقي منه يوم القيامة، فاستغربت السؤال وسألته من ظلمه، تردد كثيرًا فى الإجابة ثم أخبرني بكل ما جرى معه، وقتها قلت له عليه أن يبلغ الشرطة لكى يأخذ هذين الشابين جزاءهما فى الدنيا قبل أن يأخذاه فى الآخرة».
واستكمل: «بعد أن اقتنع بكلامي قلت له أن عليه أن يخبر أهله حتى يكونوا بجانبه فى هذا الوقت، وبالفعل أخبرهم وذهبوا وحرروا محضرًا بالواقعة فى قسم شرطة ناصر يحمل رقم 4817 مركز ناصر».
تحكى والدة سيد تفاصيل حالته الصحية بعد تلك الواقعة  قائلة: «لما روحنا نعمل محضر باللي حصل مع سيد طلبوا تقريرا طبيا، ولما عملنا التقرير اكتشفنا إن الضرب اللى كان على وش سيد سببله انفصال شبكي ولازم يعمل عملية فى أسرع وقت وإلا سوف يؤثر على نظره، واحنا ناس غلابة على قدنا، أنا معايا سيد واخته برضه مصابة بالصم والبكم، والحمد لله اتجوزت شخص من ذوي الهمم، وعايشين مع بعض في سعادة ومخلفة منه كمان، وعايشين كلنا فى البيت كافيين خيرنا شرنا، طب ليه يحصل معانا كده؟!، دا سيد غلبان وطيب، وعمره ما أذى حد مهما اتعرض للتنمر، وناجح فى دراسته وبيحب يرسم، ولوحاته مغرقة علينا البيت تبعث على السعادة، ياريت حد يساعدنا فى عملية سيد عشان نطمن علي عينه».
بعد ساعات من تحرير محضر بالواقعة، استطاعت الأجهزة الأمنية بقسم شرطة ناصر القبض على المتهمين «عبد الرحمن م.ع» و «ماهر م.ح»، وجارى التحقيق معهما تمهيدًا لعرضهما على النيابة العامة.
وأخيرًا .. كان صاحب الأكثر من 100 لوحة، وكل لوحة أكثر إبداعًا من الأخرى، لا يحلم إلا بأن تعرض لوحاته ويراها الناس، فهل من الممكن أن تكون تلك المأساة هى البداية الحقيقية للمعان نجم من نجوم الظل، الأيام ستبين ذلك

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

مشاركة