رغم أنني من مواليد القاهرة الكبري وتربيت وتعلمت فيها إلا أن اصولي تعود إلي احدي القري.. كنا في طفولتي نقضي اجازة الصيف كاملة في «البلد».. نشد الرحال إلي بيت جدي رحمة الله عليه في قرية تبعد ٤ كيلو مترات عن «بركة السبع» بالمنوفية.. كنت أنا واخوتي وأبناء خالتي المقيمين في كفر الدوار نجتمع في البيت الكبير.
لم تكن قريتنا علي حالها المشوه الآن.. فالمباني من دورين بالطوب اللبن إلا النادر منها المبني بالأحمر والمسلح.. لم يكن هناك كهرباء.. وكان الفلاح يستيقظ مع صلاة الفجر ويخرج إلي «الغيط» ومن خلفه فتاة صغيرة تجمع «الروث» لصناعة وقود الفرن البلدي مع الحطب وسيقان القطن.. والذي كان أحد مميزات البيوت الريفية فمنه نأكل العيش الطازج والفطير المشلتت.. والارز المعمر.. والبطاطا المشوية.. والذرة المشوي.. وغير ذلك مما لذ وطاب.
اتذكر أننا كنا نذهب إلي قريتنا أو نعود منها إلي محطة القطار بالسيارة الاجرة الوحيدة بالقرية.. وغالبا ما كنا نتنقل علي «الحمير» المستأجرة أو الخاصة بجدي.. كان الجو نظيفا والسماء صافية.. تري النجوم ليلا وتسهر معها تعدها.. كنا نخرج كل يوم صباحا لصيد السمك بالسنارة.. أو نأكل الخضراوات الطازجة النظيفة بدون كيماويات.. أو نتخطف الجوافة أو التين من الاشجار الموجودة علي «رأس الغيط».. أو التوت من أمام المنزل.. ونشم رائحة الياسمين من شجيراته المنتشرة بكل مكان.
كان جدي يجلس في ظل شجرة.. والعمال يخدمون الأرض بنشاط في الساعات الأولي من النهار.. وحين تعلو الشمس وتصل منتصف السماء.. ويشتد الحر.. يأخذ الجميع قيلولة حتي «العصر».. ليستكملوا العمل.. ويأتي غداء خفيف من الدار.. ومع اقتراب المغرب نعود إلي البيت الكبير لتكون جدتي رحمة الله عليها في انتظارنا بالعشاء الدسم لانه دائما ما كان يحتوي علي «زفر» من الطيور.. وبعد الوجبة الدسمة علي ضوء لمبة «الجاز» يحلي السمر علي المصطبة.. نتبادل الحكايات والنكات والقفشات.. ويجلس جدي ممسكا بصحيفة «الأخبار» التي كانت تأتي له من بائع الصحف علي عجلة بعد العصر.. ليبدأ في قراءة الأخبار لجدتي رغم انها متعلمة ولكنه مدير تربية وتعليم سابق فتنصت له وتتفاعل معه.. وبعد انتهاء حلقة السمر اليومية نذهب جميعا للنوم.. هكذا كانت أجازة الصيف لي حتي انتقالي للمرحلة الاعدادية.
كانت حياة ممتعة رغم عدم وجود كهرباء.. كان الحب والألفة يجمعان العائلة المترابطة رغم بُعد المسافات.. وكان للعائلة كبير تلجأ له دائما.. لقد ذهبت لقريتي منذ فترة ووجدت كل شيء تغير.. المباني غير متناسقة.. المقاهي منتشرة والبقالة الفقيرة تحولت إلي سوبر ماركت.. والفلاح لا يذهب إلي حقله إلا نادرا.. حتي ان احد اقاربي لم ير أمه منذ أشهر رغم انها لا تبعد عنه أكثر من ١٠ دقائق سيرا علي الاقدام.. رحم الله أيام زمان ليتها تعود.