الفن الأفريقي ألهم الحداثة الغربية
"البدائية" تلهم رواد "الحداثة"
الفن الفطرى.. حلم العودة للطبيعة الأم
السبت، 09 أكتوبر 2021 - 10:31 ص
رشيد غمرى
مع صعود الحداثة فى فنون الغرب، مطلع القرن العشرين، ظهرت نزعة تستلهم فنون المناطق البكر، والنائية من العالم، وتمجد بدائيتها وفطرية ثقافتها، حتى أنها استلهمت من قبل الفنانين الأكثر تجديدا وجموحا. نهل بيكاسو من النحت الأفريقى منضجا تكعيبيته، وفرضت الموسيقى ذات الجذور الأفريقية نفسها على الأمريكتين، ممثلة فى الجاز، والبلوز. وهكذا شاهدنا ثورة الحداثة التى تدعى القطيعة مع ما سبقها، تحمل فى أحشائها نقيضها البدائى. وتعيد إنجاب جدها، بينما كانت تتغنى بالتخلص للتو من أبيها.
وفقا لآثار العصور السحيقة، فإن الفن من عمر البشرية. وقبل عشرات الآلاف من السنين، رسم الإنسان على جدران الكهوف، وصنع تماثيله الأولى من الطين والحجر، كما اكتشف الموسيقى، وصنع آلاتها البسيطة، وغنى محاكيا الطيور. هذا الإبداع الفطرى هو ما تحول بالتدريج إلى حضارات كبرى، سرعان ما وضعت القواعد والأسس لفنونها، وأنشأت المدارس لتعليمها. وما يثير الدهشة أنه رغم التطور الهائل للإبداع الفنى من عصر النهضة إلى حقبة الحداثة، فقد احتفظت تلك الرؤى الأولية والفطرية بسحرها، بل صارت أحد أهم روافد التجديد الحداثي، ناهيك عما بعد الحداثة التى ارتدت بقوة نحو التراث الإنسانى بكل طبقاته. وقد حدث هذا ضمن حالة من التناقض، تنعت تلك الفنون بالسذاجة، بينما تقتات عليها، وتطمح لبلوغ عفويتها، وصدقها.
سعى المبدعون فى الغرب لإعادة خلق العالم، وتحطيم قواعد عصر النهضة، والباروك فى الفنون والآداب. وكان طموح التكعيبيين من بيكاسو إلى جورج براك وألبرت جليزس، وغيرهم أن يعروا الشكل، ويطيحوا باللون، لكشف الهندسة الدفينة فى بنية العالم، لكن عملهم الخارق، وصل بهم إلى الأشكال الفطرية البدائية التى ينحتها الأفارقة طوال قرون من أشجار الغابة، لخدمة احتياجات القبيلة الروحية والمادية. وقد سبق سيزان بالتمهيد عبر إعادة الاتجاه نحو هندسة الأشكال، وتحريرها من المنظور الصارم، وقواعد الإتقان الأكاديمي، وخرج جوجان أيضا عن انضباط الشكل الكلاسيكي، وانفتح إلى العفوية، وأعاد خلق المنظور، مستلهما روح وألوان ونقوش تاهيتى.
فى كتاب "الموسيقى الشعبية الأمريكية" للباحثين "لارى ستار" و"كريستوفر واتر مان" الصادر عن جامعة أوكسفورد، جاء أن الموسيقى الأمريكية المعاصرة فى القارتين، لها جذور أفريقية واضحة، مأخوذة من أغانى العبيد. ورغم مزجها بالموسيقى الغربية، لكن بقيت أصولها واضحة. ينطبق الأمر على موسيقى الجاز، والتى بدأت إرهاصاتها على يد فنانين فطريين، وبآلات بسيطة، ليست موسيقية فى الأساس مثل الملاعق والسكاكين والأواني. لكن وفقا للكتاب فقد حدثت ثورة فى هذه الموسيقى قبيل منتصف القرن العشرين، أدت لتطويرها، بعد أن كان الإيقاع يغلب عليها، ويحصرها فى مصاحبة الرقص. وفى دراسة للباحث النمساوى "جيرهارد كوبيك" يرى أن موسيقى البلوز أيضا هى ذات جذور أفريقية إسلامية، ترجع إلى مجتمعات أفريقيا جنوب الصحراء التى تأثرت موسيقاها بروافد إسلامية واضحة. وهو ما يؤكده أيضا الباحث الموسيقى "صامويل شارترز" والذى يجزم بالأصل الأفريقى المغاربى لمعظم الموسيقى الأمريكية المعاصرة. ويمكننا فهم الأمر إذا تأملنا موسيقى "كناوة" وهى فى طور الانتقال إلى العالمية، حيث هى فن أفريقى يرجع إلى العبيد الذين كانوا ينقلون من "تمبكتو" إلى ميناء الصويرة المغربى على المحيط الأطلنطى، وحيث اختلطت بمكونات أمازيغية، وعربية صوفية. وهى الآن تلهم العديد من التجارب عبر العالم، كما نشاهد فى مهرجانها السنوى بمدينتها التاريخية.
تعبيرات مثل الفن الساذج، والفطرى، والبدائى، والشعبى، والهامشى، تنطوى على أحكام قيمية، وفى الوقت نفسه تبدو متداخلة. وإذ كان مفهوم "البدائى" ينسحب على نتاجات العصور القديمة، فهو أيضا يطلق على فنون القبائل والمجتمعات النائية فى العصر الحديث. وبعضها يمكن وصفه بالفطرية، لكن تنسحب الفطرية أيضا على أبناء المجتمعات المتحضرة، والذين يمارسون الفن دون دراسة. بعض هؤلاء الفطريين المعاصرين يخرجون من عباءة الفن الشعبى، ذى القواعد البسيطة المتوارثة. وبعضهم يبدع بعفوية خاصة تفتقد العمق، وتوصف بالسذاجة. لكن الملفت للنظر هو أنه ومنذ منتصف القرن العشرين، ظهر اهتمام متصاعد للاعتراف بكل هذه الألوان، وإقامة متاحف متخصصة لفنونها البصرية، وتبنى إنتاجها الموسيقى من قبل فرق عالمية. وعلى سبيل المثال، يوجد متحف الفن البدائى فى نيويورك، ومتحف زغرب للفنون الفطرية فى كرواتيا، ومتحف الفن الساذج والهامشى فى صربيا، ومتحف الفن الشعبى فى نيويورك، ومتحف هنرى روسو فى فرنسا، كما يتم الاحتفاء بموسيقى الاثنيات والمجتمعات البدائية فى عدد من المهرجانات.
يعتبر البعض الحنين للبدائية نوعا من المثالية الطوباوية التى ترى فى الماضى عصرا ذهبيا. وهى ظاهرة عرفتها كل الحضارات، وتصاعدت فى الغرب خلال عصر الصناعة. وهناك تيار مهم اعترف بمثالية تلك الأعمال منذ عصر النهضة. ويرجع تأسيس هذا التيار إلى الفيلسوف الإيطالى "جيامباتيستا فيكو" الذى أعلن بين القرنين السادس والسابع عشر أن الشعوب البدائية هى الأقرب لمنابع الشعر والجمال.
ويوجد فنانون فطريون فى كل المجتمعات دون استثناء، ومن اللافت أن نجدهم يبرزون فى أغلب مناطقنا النائية، وحتى فى المجتمعات التى لا تعترف بدور وأهمية الفن من الأساس. ومن هؤلاء ابن الواحات الفنان مبروك، والذى صنع تماثيله من الصلصال. وعلى مشارف مدينة البويطى فى الواحات البحرية، يوجد متحف الفنان الفطرى محمود عيد، والذى رحل شابا، وترك متحفه الذى يعتبر من أهم مزارات الواحة. ويضم أعماله من الصلصال أيضا، والذى كان يحرقه بطريقة بدائية داخل حفرة فى الرمال، بالإضافة للوحاته من الأخشاب ومواد البيئة. كما أن المبنى الذى أنشأه بنفسه، يمكن اعتباره ضمن فن العمارة الفطرية البيئية. وقد ظهر "عيد" فى مكان لا يحتفى بالفن التشكيلى، وفى فترة تطرف دينى، حتى أن متحفه تعرض للحرق على يد متشددين، قبل رحيله ببضع سنوات، فأعاد ترميمه، وقاوم للنهاية حتى كان رحيله المفاجئ. وفى واحة الفرافرة يبرز متحف الفنان الفطرى بدر عبد المغنى وهو واحد من أهم مزارات واحته أيضا، ويضم منحوتاته من الفخار ولوحاته من خامات البيئة، ويشترك مع محمود عيد فى اهتمامهما بحفظ تراث الواحة. وفى الواحات الخارجة يوجد الفنان محروس الذى ينحت تماثيله من أخشاب نخيل الدوم المعمرة. وفى منطقة الشلاتين نجد الفنان الفطرى أبو الحسن الدكروني، بلوحاته الفطرية التى تصور الطبيعة الخاصة فى منطقة جبال البحر الأحمر، وجبل علبة، بتضاريسها ومراعيها. وفى المنيا يقف متحف الفنان الكبير حسن الشرق كمزار مهم.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة