«شعرت بحنين جارف تجاه عمر ومنصور اللذين وددت لو أنهما كانا حيين في مواقف كثيرة، وهذا الشعوركان الأجمل، فموتهما كان أجمل من حياة عاش فيها بقية أصدقائي لأنهم تغيروا جميعا، بينما عمر ومنصور لم يتغيرا قط، فهما قد ماتا، ومنعهما الموت من التغير الذي جري للباقين، فأفتقدهما بحالتهما التي كانا عليها، وأحبهما كثيرا.»
تلك المشاعر عاشها صاحب الشخصية المحورية في رواية «عشرة طاولة» للأديب محمد الشاذلي. وهي مشاعر إنسانية نكاد نعيشها جميعا الآن في زمن التحولات الكبري التي تعصف بالبلاد والعباد، وتوحش الآلة وسيطرتها علي حيوات البشر، الآلة الإلكترونية الجبارة التي جعلتنا جميعا عبيدا لها، وحجبت عنا شمس المشاعر الدافئة واللقاءات الحقيقية والتفاعل الإنساني الطبيعي وجها لوجه بدلا من وجه الكمبيوتر!
في تلك الرواية التي تحمل نفسا حميميا، وحنينا للصحبة والناس ولقاءات القهوة والطاولة والشيشة يأخذنا الكاتب إلي حياة مجموعة من الأصدقاء يعيشون يومهم في مسارات مختلفة، لكن في المساء تجمعهم الطاولة. يلتقون ويطوفون علي المقاهي،مركز الكون بالنسبة لهم هو الطاولة. يتحركون حول هذا المركز في فضاء الواقع السياسي والاجتماعي في مصر.
مجموعة الطاولة التي تسهر يوميا معا يتبادلون الحكايات، حتي تلك التي لا تعنيهم، ولكنهم بين رمية الزهروالحياة المعقدة في مصر مابين ثورتين والأحزان العميقة والعابرة في حيواتهم الشخصية، لا يتخلون أبدا عن المغامرة وإنهاء يومهم بـ»عشرة طاولة».
لقد صنع محمد الشاذلي عالمه الروائي من دم ولحم. وبث الحياة في شخصياته التي ينتمي معظمهم إلي الطبقة المتوسطة التي يقع علي كاهلها عبء التحولات الكبيرة والأزمات الاقتصادية والسياسية.و لا يجدون متنفسا لهم غير قعدة القهوة في آخر اليوم يلعبون الطاولة وينفثون دخان الشيشة ويفضفضون عن همومهم ومشاكلهم وأحلامهم التي صارت كالسراب يروونها ولا يلامسونها أبدا !
يقول الراوي صاحب الشخصية الرئيسية في الرواية : «انتهي هذا الزمن الذي تحدد أنت ما تفضله. هذا ليس زمن المشتري بل زمن البائع، وبالأحري زمن المروج للسلع «. نعم يا صديقي فنحن أصبحنا في زمن القولبة « النسخ». التي يسمونها العولمة الذي يسعي إلي أن نصبح جميعا نسخا مكررة، باهتة، لا لون لنا ولا هوية. وطننا هو شبكة الإنترنت وفضاؤنا هو الفيسبوك وانستجرام حيث نقدم أسرارنا مجانا إلي من يريد أن يستخدمها ويحدد لنا أسلوب حياتنا ماذا نشتري، ماذا نأكل وإلي أي مطاعم نذهب، بمن نتزوج ومن ننتخب ! تلك هي الأزمة الكونية التي نحياها الآن والتي تحاول أنت وأصدقاؤك في القهوة أن تقاوموها بالساعات القليلة التي تهربون فيها من وطأة تلك الحياة منزوعة الإنسانية، الحياة المقولبة إلي لحظات أكثر حميمية وقربا. فهنيئا لك ذلك الهروب البديع من عالم فقد بهجته إلي عالم أكثر صدقا وإنسانية.