د .مبروك عطية
د .مبروك عطية


يوميات الأخبار

كلمات فى الحب

الأخبار

الخميس، 21 أكتوبر 2021 - 07:28 م

كان الشافعى رحمه الله إذا خرج من بيته لمناظرة أحد من العلماء دعا الله قائلا: اللهم سق الحق على لسانى أو لسانه، أى يستوى هو ومن يناظره

السبت : الحب قبل الكلمات


لا أجد من ذرة شك فى قلبى أن الحب سابق كلماته، وجد قبل أن تتحرك بها الشفاه، وقبل أن يدور بها القلم، وقبل أن تنظم بها قصيدة، وقبل أن تسلك بها رواية، ذلك الحب الذى لولاه ما كانت الكلمات، من وكره خرجت، وفى عشه درجت، ثم انطلقت لتعلن فى سمع الدنيا أن وراءها حبا تعجز هى عن التعبير عنه، فهى وليدته، وكل وليدة عاجزة عن التعبير عن والدها الذى كان سببا فى وجودها، وهو الذى رعاها، ورباها، ومن روحه كساها قبل أن يعلوها الكساء، ومن روحه سقاها قبل أن يسعفها كوب الماء، ومن سره أحياها قبل أن تحييها الأشياء، قاصر لسانها، ومقصر بيانها، الذى لم يسعفها بما تشاء من التعبير عن جماله الذى تفتق عن جمال الدنيا، نعم عيناها جميلتان وضاءتان ساحرتان، لكن تبقى عيناه أجمل وأنضر، نعم إنها تقول لمن ينشد الشعر فى سحر عينيها: انظر إلى عينى والدى، إنها أجمل، ودقق النظر فيهما، هل ترى تلك الزوايا ! إنها ملامح عينى، لا يغرنك ما حولها من خطوط، تلك آثار كده من أجل أن تبقى عيناى جميلتين، وإن كنت ترى انحناء ظهره فلا تحسبن أن استقامة عودى الذى شبهته يوما بغصن البان فى منأى عن تلك الانحناءة فيه، فو الله ما انحنى ظهره إلا من ان يستقيم عودى، لقد ترك لى المنام قريرة العين، وراح يشقى، ولم يجد فى جواب من مسرة ما وجد من جوابى حين كان يقول لى: كيف أنت؟ فأجيبه بقولى: أنا بخير يا أبى، كان هذا مبتغاه، وسر أسرار سعادته، بل كان يقول لى، وهو أصدق من عرفت: إن لحياتى هدفا واحدا، هو أن أراك أسعد الناس، وحين قلت له يوما: أراك مجدا يا والدى، أجابنى بقوله: كل جهد حين أنظر إلى عينيك يستحيل راحة، وكل هم حين أراك يزول، فأنت مصدر سعادتى، وسر تعلقى بالحياة، وهذا معنى الحب، إحساس يجعل المحب مقبلا على الدنيا برغم مآسيها لأن له فيها حبيبا، وأنت ذلك الحبيب، الذى لا حبيب لى سواه، بل كل حب فى حياتى أنت سببه، فما أحببت أحدا إلا لأنه يحبك، أو حتى يحبك، فيا مصدر كل حب فى حياة أبيك، زادك الله حبا فى الحياة، حتى أحب أنا تلك الحياة لأنى أراك تحبينها.


الأحد : الشعور قبل التعبير


وقبل أن يكون هناك تعبير وجد الشعور الذى وجد الإنسان نفسه فى حاجة إلى كلمات يعبر بها عن هذا الشعور، ما سمعنا أن أحدا عبر عن شيء غير موجود فإذا به وجد بعد التعبير، قضية أقرب إلى المنطق منها إلى ميادين الحب الفسيحة، تشعر أولا ثم تعبر عن شعورك هذا، والناس فى هذا قسمان، قسم يملك ناصية البيان، فيستطيع التعبير عما يشعر به، حينا بالواقع والمطابقة، وأحيانا بالمبالغة، والمبالغة من وادى الحب خرجت، كما خرجت من وادى البغض أيضا، والصنف الثانى لا يملك ناصية البيان، فهو لا يعبر عن عظيم شعوره، وإنما يحاول، وأرى قيمة هذا الصنف فى أنه يجتهد فى إثبات حبه بالفعل لا بالقول، ولسان حاله وفعله أقوى من لسان المقال الذى امتاز به القسم الأول، لأن المحب وإن عف شكلا عن فعل محبوبه، كما يدعى بأنه لا يريد منه شيئا هو فى الحقيقة يود أن يرى منه أشياء، وإن كانت تلك الأشياء فيما ترى العين تافهة ليست بذات قيمة عند الناس لكنها عظيمة عنده، ومن ثم قيل من قديم: «بصلة المحب خروف» فهو إذا فى حاجة إلى بصلة من حبيبه؛ لا لأنه معدم لهذه الدرجة، وإنما ليراها خروفا، يستمتع به رؤية عين، ومتعة نفس، وغذاء بطن، ولو لم يكن فى حاجة إلى تلك البصلة لما عبر عنها، ولاستعاض عنها بصفر مثلا أو بحرمان، نعم إن المحب يود أن يرى ممن أحبه شيئا، كما يود أن يسمع منه حرفا، بل إنه راح يعبر عن هذا المعنى بقوله: صمت المحب أبلغ، وهو فى الوقت نفسه لا يقصد ذلك الصمت الذى يشبه صمت الأبكم الذى لا ينطق بالكلية، بل يسمع صوت أنفاسه مختلفا عما يسمعه من أصوات أنفاس غيره، الذى قد يتحول فى سمعه إلى صوت براكين مفزعة، أو زلازل مدمرة، هذا الصوت الذى يسمعه وهو كالنجوى يجرى فى نفسه ما تجريه الروح فى تلك النفس من بث معانى الحياة، لكن لا أحد يشعر به، لأنه هو الآخر لا يملك التعبير الذى يناسب شعوره، فهناك لغة اسمها لغة الوجدان، ولغة الوجدان لم يكتب أحد فيها، حيث غلبتنا جميعا لغة الواقع التى عنى بها النظم، وهى لغة تحتاج إلى عمر طويل واعتكاف مستمر كى تدرس مفرداتها، وما مفرداتها غير حروف، وحروفها وإن كانت على منوال الأبجدية إلا أنها تشبه الحروف المقطعة فى أوائل السور، مثل (الم) مطلع سورة البقرة وآل عمران، وص وق وكهيعص وغيرها، ولو راجعت مصادرنا لوجدت حديثا مستفيضا حول معانى تلك الحروف، لكنك تتوقف عند قول ابن عباس رضى الله عنهما فى تلك الحروف، حيث جعلها من المتشابه، أى أنه قال: الله أعلم بمراده، ونحن نؤمن بأنها من القرآن، وأنها من عند الله، وما قاله ابن عباس هنا أقرب إلى لغة الوجدان التى تشغلنى كثيرا، وأعنى بذلك أنك لو سمعت حرفا ممن تحب، لا يجد له الناس معنى قلت أنت: هو حب، كما قال ابن عباس نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا، وأنت الوحيد الذى تقول فى حرف مبهم نطق به محبوبك: أومن بأنه حب، ولو تفشت لغة الوجدان فينا بتلك الطريقة لما وجدنا أحدا يشك فى كلام أحد، وما وجدنا أحدا يشتهى تفسيرا من أحد، وهذا لن يكون بحال إلا إذا كان هناك حب، فلا تقل من أين نأتى بلغة الوجدان؟ ولكن قل: من أين نأتى بالحب!


فالحب مصدر هذه اللغة، ولقد عرفت رجلا كريما رزق بولد لا ينطق، فكان الوحيد الذى يفسر صيحاته، وكان يقول: هو يقول لفلان: اسكت، ويقول لفلان: تكلم.


الإثنين : ولها معنيان


تعرف أن أحدا يحبك، وإن شئت قلت: يذوب فيك حبا إذا تكلمت بكلمة لها معنيان، معنى غير جميل، ومعنى يمكن حمله على شيء من الجمال فحمل كلامك على هذا الثانى دون الأول، فلغة الوجدان على غير لغة الواقع التى لا نعرف غيرها تقريبا، فلغة الواقع تحمل اللفظ على الكثير الغالب، أما لغة الوجدان فتحمله على النادر، الذى ربما عز وجوده، فهو فى لغة الواقع شاذ، لكنه عندك ليس بشاذ، والدليل على أن الابن السوى محال أن يحمل كلام أبيه على الشتيمة والأذى إذا قال له: يا ابن كذا، أو يا كذا، محال، بخلاف الابن الذى لعبت به الأهواء، واصطاده أهل السواد؛ فباعدوا بينه وبين أبيه، وأطالوا فى حمل كلام أبيه على لغة الواقع، حتى شعر بأن أباه يؤذيه، لم يقل له هؤلاء حين اصطادوه إلا عبارات الحب التى لا يملكون غيرها مثل: يا حبيبى ويا روح قلبى، ويا قلبى، ويا نضرى بينما أبوه من أولئك الذين يقولون ذلك ولكنهم يعملون أكثر مما يقولون، فتنوسى العمل، وبقى القول الذى ظاهره الأذى، حتى حكم الغبى على أبيه بأنه مصدر قلق له، وأن غيابه خير من رجوعه حتى بتنا نرى من الأبناء من يقول: أبى راجع من سفره فالويل لى، لأنه لا يسمع تلك الكلمات الفارغة منه، ومن هؤلاء الشياطين من يحمون نار الفتنة فى صدر الابن قائلين: أبوك راجع، كان الله فى عونك، وقلبى معك، والله يصبرك، وكأن الراجع هذا أعدى أعدائه، وكأنه حين يرجع ليس حاملا فى جعبته مقومات حياته، من مال، وزاد، وخيرات ما غاب إلا من أجل إحضارها له، وحملها إليه، وهو يود أن يراه فى أحسن صورة، بل يود أن يراه خيرا منه، ومن لداته جميعا، ورفاقه كلهم، لكن كل هذا يغيب مع العمى، ونعوذ بالله من شر العمى، الذى هو القلوب، ألا ترى إلى قول الله تعالى فى سورة الحج:


«فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور».


الثلاثاء: ولهذا قالها الشافعى


ومن أجل هذا قال الشافعى: لو قال لى إنسان كلمة لها ألف معنى للشر، ومعنى واحد فى الخير لحملتها على معنى الخير، وهذا فى تقديرى وتفسيرى المتواضع من أثر حب الشافعى لدينه الذى هو ديننا، فهذا الدين يبعدنا بكل طريق عن الشر، وعن كل ما يؤدى إليه، ومما يؤدى إلى هذا الشر أن تحمل المعنى على الشر حيث يوجد احتمال الخير فيه، وحسن الظن بالناس هو الأساس فى هذا الدين، فالمسلم أخو المسلم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ولا يحب عاقل لنفسه أن يظن الناس فيه سوءا، بل يحب أن يحسن الناس الظن فيه، وكذلك ينبغى ليكتمل إيمانه أن يحب للناس ما يحب لنفسه من حسن الظن فيهم، وكلمة الشافعى رحمه الله تفتح لنا آفاقا فى الحب أرحب من حب شخص لشخص، لأن حب الدين يعنى حب منهجه، وخلقه، وهو مظلة لكل الناس، فمن أحب منهج دينه فقد أحب الناس جميعا بالقدر الذى يجعله يتعايش معهم، وهو سليم السريرة، لا يحمل لهم موجدة، ولا يشعر بسواد فى قلبه ناحية أحدهم، وقد كان الشافعى رحمه الله إذا خرج من بيته لمناظرة أحد من العلماء دعا الله قائلا: اللهم سق الحق على لسانى أو لسانه، أى يستوى هو ومن يناظره، وهو لا يريد ابتداء أن ينتصر على من يناظره حتى يقول الناس: إن الغلبة والحجة كانت له دون مناظره، إنه رجل يريد الحق، ويبغيه، ويسعى فى طلبه سواء ساق الله تعالى الحق على لسانه، أو على لسان من يناظره، وقد اطلعت على موقف له يشهد بصدقه فى دعائه، حيث قضى الليل كله يكتب فى مسائل العلم، حتى دنا وقت الفجر، فنزل على سلم بيته فى القاهرة، ونادى تلميذا له كان يخدمه، وسلمه الأوراق التى سهر معها طوال الليل، وقال له: انشر هذا للناس، ولا تقل: قال الشافعى، هذا موقف يدل على رغبة الرجل رحمه الله فى نشر العلم الصحيح، وليس مهتما بذكر اسمه، ولا يعنيه أن يقول الناس فيه: إنه العلم العلامة، ولا الحبر الفهامة، إنما يعنيه فقط أن يزدادوا علما ونورا، وكل ما ذكرت كانت لغة الوجدان فيه بارزة، وأقرب ما ذكرت أنها تجسدت فى مناولته تلميذه تلك الأوراق التى سهر فيها، بغض النظر عما قاله له من لغة الواقع التى فحواها فيما أرى من لغة الوجدان، والمناولة وإن كانت مناولة أوراق فلا يمكن أن نتجاهل مناولة الغنى شيئا من ماله لمحروم أو مسكين، فكل من يناولك نافعا يخاطبك بلغة الوجدان.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة