السبت:
وهكذا تدور الأيام.. ويهل علينا شهر رمضان.. الذي تتجسد فيه سلوكياتنا وسهراتنا وتقاليدنا وعاداتنا.. وموالدنا وتراثنا.. ومعها عيوبنا.. وفضائلنا.. والأصوات الزاعقة التي تختلط فيها كلمات الدعاء بصياح الباعة.. والصرخات التي تنطلق من مكبرات الصوت عبر المآذن الشاهقة تصل إلي أذان وأسماع أمة الإسلام في كل بقاع الأرض.. وتصل من قلب المدن المصرية إلي مناطق تعجز الطائرات النفاثة عن الوصول إليها.
ويأتينا شهر رمضان.. هذه المرة.. ونحن في خضم معارك ضارية حول قشور الدين.. والاختلاف بين المذاهب.. تزهق فيها أرواح المئات من المسلمين.. كل يوم.. وتصرفنا عن النظر لجوهر الإسلام.. وإلي العمل الصالح من أجل البناء والتعمير ومواكبة الزمن واللحاق بالعصر.
وهكذا يهل علينا شهر الصيام هذه المرة.. ونحن في حالة حرب حقيقية.. تشنها جماعات إرهابية.. ترفع شعارات الإسلام.. وتقتل الأبرياء.. وتسبي النساء.. وتثير الفرقة والانقسام بين أبناء الوطن الواحد. ومن هنا تكمن رسالة الأزهر في أهمية تجديد الخطاب الديني لسبب بسيط هو أن كلمة «الأزهر» لا يقابلها في خيال الأمة المصرية سوي كلمة «الهرم» علي حد تعبير مصطفي صادق الرافعي الذي قال: إن في كلا اللفظين يكمن أحد أسرار التاريخ التي تجعل بعض الكلمات ميراثا عقليا.. فالحجر في الهرم الأكبر يكاد أن يكون في العقل الباطن.. زمانا.. لا حجراً.. وفناً.. لاجسماً.. ومكان في الأزهر يغيب فيه معني المكان.. وينقلب إلي قوة عقلية ساحرة.. توجد في المنظر.. غير المنظور.
ويقول مصطفي صادق الرافعي ان من أخص واجبات الأزهر أن يعمل لإقرار معني الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم.. قبل غيرهم.. لأن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لاغير.. وما منهم إلا من هو في حاجة إلي تجديد الإسلام.. لمواكبة الزمن.
واللافت للانتباه أن الأزهر اكتسب احترام المسلمين وغير المسلمين.. وعندما كان اللورد كرومر.. يزور المشيخة كان يخلع حذاءيه ويسير حافيا علي قدميه حتي يبلغ حجرة الشيخ الذي يمد له يده فيلثمها قبل أن يأذن له الشيخ بالجلوس.
المهم.. أننا نمر الآن بمرحلة تقتضي تجديد الخطاب الديني.. وتنقيته مما شابه من أفكار لا تتعلق بثوابت الدين.. وإنما تتعلق بثقافة الصحراء وما سادتها من سلوكيات وعادات وتقاليد لم تعد تناسب العصر.. بكل منجزاته العلمية الهائلة.. التي ألقت بآثارها علي تغيير أنماط الحياة علي وجه الأرض، وهي تستند في كل مرة إلي نصوص مغلوطة تزين للبعض ارتكاب كل ألوان العنف والإرهاب.. ونسف المرافق العامة.. باسم الإسلام وبناء علي نصوص تفتقد المصداقية.. وتسيء للإسلام.
ومن هنا تأتي أهمية الدعوة لتجديد الخطاب الديني.. علي النحو الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني والإمام الشيخ محمد عبده وغيرهما من كبار المصلحين.. وهي دعوة تقتضي  فتح أبواب الاجتهاد.. وايجاد ثقافة احترام الرأي الآخر.. وعدم تجريمه أو اتهامه بالكفر أو الإلحاد.. أو أخذ المخالف في الرأي بوسائل القهر وتقديمه أمام المحاكم من باب الايذاء بالإرهاب تارة وبالاغتيال تارة أخري.
تجديد الخطاب الديني يعني فتح أبواب الاجتهاد في علومنا الدينية.. وفي كتب التراث التي تصرف الأمة عن فروع الفن والابداع.. والفكر والفنون.. وفي مختلف مجالات العلوم الحديثة أسوة بما وصلت إليه الشعوب الراقية التي أبهرت العالم بإنجازاتها.. بلا عوائق دينية أو عقائدية.
وأتصور أن المهمة العاجلة التي يتعين علي الأزهر الاضطلاع بها.. هي فتح أبواب الاجتهاد.. وقبول الآراء التي تدعو لتجديد الخطاب الديني.. بلا حساسية.. وبلا إثارة الخصومة ودواعي الانتقام.. لسبب بسيط.. هو اننا لن نصل إلي هدف تجديد الخطاب الديني.. إلا بفتح أبواب الاجتهاد.
أبواب الاجتهاد.. وحرية تبادل الآراء.. هي سبيلنا نحو التقدم.. وإعادة بناء الوطن العظيم الذي ننتمي إليه.. بعد أن نقدم لأطفالنا في دور الحضانة.. دروساً في احترام الرأي الآخر.. وعدم اللجوء إلي أساليب الإرهاب في مواجهة خصومنا الذين لا يتفقون معنا في المذاهب!
أمسية رمضانية
الأحد:
امتلأ السرادق المقام في ميدان سيدنا الحسين عن آخره.. ولم يعد هناك أي مكان للوقوف.. بينما المقاعد لايزال أغلبها خاليا.. لأن السمع في السرادق بالمشاريب.. والذي يجلس لابد أن يدفع ثمن جلوسه.
إنه سرادق المطرب الشعبي الكبير.. وهذا السرادق أشبه المغناطيس الذي يجتذب الغالبية العظمي من القرويين الذين يعيشون في العاصمة.. علاوة علي عدد لا بأس به من السياح.. وطالبات الجامعة الأمريكية.
ويبدأ موسم حسن مصايب.. عندما تعلن الإذاعة عن بدء شهر رمضان المعظم.. وأغنية «رمضان جانا».. وينتهي عندما تصدح أم كلثوم بأغنية «يا ليلة العيد انستينا».
القرويون.. يفدون إلي السرادق من باب الحنين إلي رمضان في القري التي انسلخوا منها.. أما السياح وطالبات الجامعة الأمريكية فيحضرون للاستماع بما يسمي «مواويل بارتي».
في البداية يصطف تحت المطرب الشعبي الكبير علي الكراسي فوق المسرح.. يرتدون الجلاليب.. وتتدلي من أفواههم الآلات الموسيقية.
هذا ارغول.. وهو عبارة عن بوصة طويلة.
وهذه سلامية.. وهي عبارة عن ناي صغير.
وهذه ربابة.. وهي أشبه بالكمنجة!
وعندما يصعد المطرب الكبير إلي المسرح بجلبابه المنشي.. والطربوش الأحمر الناقع.. تضرب الفرقة الموسيقية له التحية للإعلان عن ظهور البطل.
وفي هذه الأثناء يلوح حسن مصايب بكلتا يديه في الهواء لرد تحية الجماهير التي تصفق.. وتصفر وتبدي كلمات الاستحسان.. بينما عيون السياح الأجانب لا تكاد تصدق ما تري.
إن المخلوقات التي شاهدوها علي جدران الاثار صباحا.. تتحرك أمامهم في المساء (لايف) وعلي الهواء الطلق مباشرة.. ان الفراعنة تدب فيهم الحياة في رمضان.
سبحان الله.
وتسمع السائحة تميل علي زميلتها وعلي لسانها كلمة (أوريجينال)فترد عليها الثانية بالفرنسية (وي.. وي) أما الرجال فإن عيونهم تلتهم السائحات التهاما.. ولا يجدون في ذلك أي بأس.. لأن ذلك يحدث بعد المدفع.. وليس خلال ساعات الصيام.. وهم يعتقدون أن هذه النظرات حلال لأنها لا تفطرهم بينما الحقيقة أنها تنقض الوضوء!
وفي هذه الأثناء ينتشر في المكان «كام واد بيئة» لإرغام الجماهير الواقفة علي الجلوس أو الانصراف.. بعد الاستئذان.. لأن المشاريب للجالسين.. وليس للواقفين الذين يتطفلون علي المكان.. ويحولون دون وصول الهواء للقاعدين فوق الكراسي.
ويبدأ حسن مصايب.. بموال التحية.. ثم بقية المواويل بناء علي ما يطلبه المستمعون.
والمواويل عتبات.. فيه موال ٧ عتبات وموال ٥ عتبات وموال ٣ عتبات.. والعتبة يعني فقرة.. والموال ٧ عتبات مثل:
يا حلو كذاب.. لكن كذبك بيعجبني
كلامك الحلو فيه أنغام بتعجبني
اديني ميعاد.. ولو متجيش.. تعجبني
قام بص بالعين.. وضحك السن ما اتكلم
الفم ساكت.. لكن العين بتتكلم
القلب للقلب.. باح بالسر واتكلم
أنا جاي مسلم بحبي.. وقلت تعجبني
أما الموال ٥ عتبات فهو مثل:
يا حلو ياللي سواد عينك مجنني
والسحر ساكن ما بين الرمش والنني
فيه حد وزك عليَّ.. لجل تفتني
جرحتني بسهم عينك والدوا عندك
وكلمة من بين شفايفك.. راح تطمني
والمواويل ليست عتبات فقط.. وإنما هي ألوان أيضا فيها الأحمر والأخضر وفيها الأبيض والأسود.
الموال الأحمر فيه شيء من الإباحية..
والموال الأخضر عبارة عن غزل رفيع.. وقد اكتسب حسن مصايب شهرته من المواويل ذات اللون الأسود مثل:
حاربني يا زمان.. بكل سلاح
أنا راضي
وقل أصلك.. وإعمل دون
أنا راضي
حاربتني يا زمان من غير أصول
وأنا راضي
وكويتني بالنار علي جبين العين
وأنا راضي
وسقيتني كاس المرار
قلت جميل.. وأنا راضي
وبكل شيء.. انكتب في الغيب
أنا راضي!
....
الله يرحمك يا شيخ حسن.. ويرحم سهراتك التي افتقدها كثيراً هذه الأيام.. ونحن نعيش سهرات رمضان في بيوتنا.. ونتأمل أحفادنا يتابعون مسلسلات رمضان يتناولون الأيس كريم!
خواطر الخواطر
الاثنين:
> منذ سنوات بعيدة ابتدع الألمان طريقة عجيبة للمحافظة علي صحتهم بأن جعلوا المعلبات تتكلم!
الزبادي يتكلم.. واللبن يتكلم.. والصلصة تتكلم.. وكل السلع التي لها تاريخ صلاحية.. تتكلم
النظام المبتكر يعتمد علي آلة ناطقة تضاف للآلة الحاسبة وعندما يضع المواطن الألماني مشترياته فوق السير المتحرك لدفع الحساب.. يقوم موظف الخزينة بتحديد كل سلعة علي أشعة متصلة بالكمبيوتر لتسجيل نوع السلعة.. وسعرها.. كما هو متبع في العديد من محلات السوبر ماركت الكبري عندنا.
الجديد في الموضوع ان الجهاز الحاسب لا يسجل نوع السلعة وسعرها فحسب.. وإنما يصدر صوتا يقول:
منتهية الصلاحية!
أو يقول:
هذه آخر علبة علي الرف!
بصوت واضح يسمعه الزبون وعامل الخزينة.. وكل واقف في الطابور.. وبذلك يتم اكتشاف نهاية الصلاحية قبل دفع الحساب.
تري.. لو تكلمت السلع الاستهلاكية في بلدنا.. هل ستقول الحقيقة؟ وهل ستقول لنا مثلا ان اللحم الذي اشتريناه هو لحمار.. علي المعاش؟!
> قال عمار الشريعي في برنامجه الرائع (غواص في بحر النغم) والذي تعيد إذاعة الأغاني امتاعنا به يوم الاثنين والخميس من كل اسبوع:
أنا شديد الإعجاب باسماعيل يس كمطرب!
صدقت يا عمار.. وكانت كل أعمالك تعد إضافة حقيقية.. لكل مستمتع يتلمس الصدق في كلماتك التي تخفف عنا خشونة الحياة!
> تعجبني كلمة «يتمرغ» في أغنية عبدالوهاب.. محلاها عيشة الفلاح.. يتمرغ علي أرض براح والهدمة الزرقا.. ستراه.. لأن الشاعر صاحب الأغنية. لم يختر كلمة يتقلب ويقول يتقلب علي أرض براح.. وإنما قال يتمرغ.. وهي كلمة مشتقة من «مرغ».. أي مرغه في التراب تمريغاً.. فتمرغ أي عكه.. فتمعك.. أي دعكه في التراب فتمرغ!
هل خطر ببالك ما خطر ببالي؟!