الزمان والمكان 1984
الزمان والمكان 1984


«جاذبية» صعدت إلى السماء

ورحلت الفنانة التشكيلية الرائدة

آخر ساعة

الإثنين، 15 نوفمبر 2021 - 07:16 م

فاطمة على

رحلت الفنانة الرائدة جاذبية سرى عن عمر ناهز 96 عاماً، الأسبوع الماضي، وهى آخر جيل الكبار الذين شكلوا الحركة الفنية المصرية فى معتركها الفنى فى الخمسينيات والستينيات واستمرت فى إبداعاتها بعد رحيل الفنانتين الكبيرتين إنجى أفلاطون وتحية حليم اللواتى شكلن معاً ثلاثياً ذهبياً من الجيل الثانى فى حركة الفن المصرى وبلغن العالمية من داخل معتركهن الإبداعى بحركة التشكيل المصري. وكانت أسماؤهن الثلاثة تذكر مجتمعة فى كل المحافل الفنية داخل مصر وخارجها.. وحصلت جاذبية سرى على الجائزة الشرفية لبينالى فينيسيا عام 1956، والجائزة الأولى من بينالى الإسكندرية، والجائزة الكبرى الرابعة للفن العالمى بموناكو 1998، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1970، وأخيرا جائزة الدولة التقديرية عام  2000.

وبدأت الفنانة الراحلة مشوارها الفنى برسم لوحات تصور الواقع الاجتماعى للمرأة المصرية، بدءاً من لوحاتها الشهيرة فى الخمسينيات «أم عنتر» 1953، و«أم رتيبة» 1953، و«أم صابر» 1952، و«الزوجتان» تلك اللوحة التى صورت فيها ما يصيب الزوجة الأولى وأولادها من أذى نفسي، بينما تصبح الصدارة فى اللوحة للزوجة الأولى، فكانت هذه اللوحة تحديداً صرخة للمطالبة بحقوق المرأة.
ووصلت لوحاتها إلى مكانة متميزة لقربها من مشكلات المرأة فى صورة واقعية تعبيرية، وامتدت تعبيريتها إلى لوحات رمزية كبداية للتغيير والانطلاق الاجتماعى مثل لوحة «المراجيح» 1956، ولوحة «الطائرة الورقية»1960 التى اقتناها متحف «المتروبوليتان» أحد أشهر متاحف الفن العالمى بأمريكا، فكانت هذه المرحلة تضىء بسمات الشخصية المصرية والهم الاجتماعى معاً، ثم امتدت بلوحات فى الخمسينيات تمثل نهضة اجتماعية بلوحات أبدعتها مثل «الإصلاح الزراعى» 1961، و«التصنيع»، وفى الوقت نفسه أخذت لوحاتها تهتم بالمرأة الجديدة مثلما فى لوحتى «العازفة» و«المعلمة».
وحدثت ثورة فى أسلوب جاذبية الفنى الاجتماعى بعد نكسة يونيو 1967، مثلما حدث مع كثير من فنانى مصر، فأصابتها بصفعة قوية هجرت على إثرها الحياة والفن لفترة وجيزة عاشتها بين حالتى الحزن والصمت، وفى تلك الفترة جمعت شتات نفسها وعادت أقوى تعبيراً وأداءً فنياً معبرة عن شرخ النكسة داخل النفوس وداخل كل البيوت فصورت مرحلتها الهامة «الناس والبيوت» ومزجت بين بيوت الحجارة المفككة المتكئة على بعضها البعض فى خوف تطل منها عيون البشر وأجساد ساكنيها وقد بدت كأنها على وشك التهاوى.
وفى هذه المرحلة بدا الرمز واضحاً فى أعمالها وقوة التعبير اللونى فى امتزاج البيوت الحجرية المادية الهندسية بأجساد ساكنيها العضوية مشكلين معاً توحدا ورسوخا متضامنا بين البيت الرمز للوطن وبين الإنسان ساكن الوطن حتى لا ينهارا مع هذه النكسة، فكانت هذه المعالجة الفنية التى دعمت من مزج جاذبية سرى بين فنها وقضايا وطنها بوعى فكرى وفنى وتقنية رائعة أوصلت أعمالها للعالمية، وقبلها كان اهتمامها بقضايا وطنها وحقوق النساء الاجتماعية والإنسانية.
ومع السنوات خرجت بأسلوبها الفنى أكثر تفكيكا فى المساحات اللونية والشرائطية بديلاً عن التكدس المتراكم بين البيت والإنسان فى مرحلتها الأسبق، فكانت انسيابيات المساحات، وقد خرجت بلوحاتها لـ«البحر» و«الصحراء» و«الوادى» و«الأهرامات» فى تجريدات شعورية ورمزية لحرية الإنسان، ثم مع كل سفر لها فى ضواحى مصر كانت ترسم الإنسان المصرى خارج البيت فى المقاهى والأسواق بألوانها المائية السريعة التأثير بضوء اللون، حيث ترسم فى احتكاك واستمتاع بالحياة متكاملاً مع رمزية لوحات البحر والصحراء فى الحرية والانطلاق بنفسه وبحياته.
وكانت الفنانة ترسم بألوان زيتية ومائية ونفّذت بعض اللوحات الصغيرة بتقنية الجرافيك، وأبدعت أعمالها التى تمثل علامات فى تاريخ حركة الفن المصرى والعربى على مدى سبعين عاماً من الإبداع لتشكل ركناً وعموداً أساسياً فى حركة التشكيل المصرى الحديث امتد إلى المعاصر أثناء سنواتها الأخيرة. 
وقال عنها الناقد الكبير إيميه آزار: “جاذبية سرى فنانة مصرية أصيلة تحررت شيئاً فشيئاً من الصياغات التشكيلية التى تعترف بها المدرسة الأوروبية، ونزعت إلى تجديد شباب رؤيتنا للتراث المصرى القديم، إذ وفقت بينه وبين أبحاثها فى مجال اللون ولنسارع بالقول إن هذه الأبحاث تستلهم تراثا قوميا هو النسيج القبطى، ولكى نفهم هذا الفن علينا أن نسلِّم بشيء آخر عمّا سبق أن رأيناه أو عرفناه.. فهى تتخذ نسقاً فنياً زخرفياً هو ليس من الزخرفى بشيء ولا يمت بصلةٍ إلى الأرابيسك ولا إلى موضوعات مجازية أو تاريخية، لكنه مزيج من الخبرة الداخلية الحميمة و”الفولكلور” فى نسق تتقارب فيه الخطوط دون أن تنضوى تحت استخدام البعد الثالث الذى تسعى جاذبية إلى التحرر منه”.
ولدت جاذبية سرى فى أكتوبر 1925، وحصلت على دبلوم الفنون الجميلة عام 1948، ودبلوم التربية الفنية عام 1949، ودراسات عليا فى باريس 1951، ودراسات عليا من روما فى التصوير عام 1952، ودبلوم دراسات عليا فى التصوير من كلية ميلد بجامعة لندن 1954-1955، وعملت أستاذة بكلية التربية الفنية حتى 1981، وأستاذة تصوير بالجامعة الأمريكية بالقاهرة 1981-1982، وأقامت أكثر من سبعين معرضا خارج مصر فى العالم العربى وأوروبا وأمريكا، وعرضت لوحاتها فى كبريات متاحف الفن فى العالم وحصلت على العديد من منح الزمالة من جامعات مختلفة حول العالم.
رحلت الفنانة الكبيرة، إحدى رائدات الفن المصرى بعدما أهدت منذ سنوات قليلة 20 من لوحاتها تمثل مراحلها المختلفة لوزارة الثقافة المصرية، و10 لوحات ألوان مائية للنوبة قبل بناء السد العالى أنجزتها فى رحلة الفنانين والأدباء الشهيرة إلى بلاد الذهب فى الستينيات، ولا تزال الصالة الكبرى بدار الأوبرا تتجمل وتزداد بهاءً بأربع لوحات ضخمة تحمل توقيع الفنانة الرائدة.

 

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة