نحت عوامل الطبيعة فى الصحراء البيضاء
نحت عوامل الطبيعة فى الصحراء البيضاء


عوامل الطبيعة ترسم وتعزف الموسيقى .. الجمال العشوائى إبداع الصدفة

آخر ساعة

الأحد، 21 نوفمبر 2021 - 10:25 ص

رشيد غمرى

الإبداعات وليدة الصدفة، صارت محل اهتمام، خلال العقود الأخيرة.. منها ما تصنعه الطبيعة، ويقتصر دور الإنسان على التقاطه وعرضه، ومنها ما يتدخل فيه الفنان بتوفير ظروف ملائمة لعمل الصدفة، وفى كل الأحوال تتولى قوانين الفيزياء، وتتابع الأحداث الرسم والنحت، وحتى إنتاج الموسيقى. وإذا كانت محاكاة الطبيعة هى دأب الفن طوال أغلب تاريخه، فإن ما صار يثير الاهتمام مؤخراً، لم يعد مشهد الغروب على شاطئ البحر، ولا راعية بوهيمية، تجلس متأملة فوق صخرة، ولكن خربشات طبيعية على جذع شجرة، أو صدأ فى لوح معدني، تقشر طلاؤه عن وجوه خرافية، أو أصوات تلقائية فى محطة قطار، توظف ضمن مقطوعة موسيقية.

فكيف يمكن للفوضى أن تنتج الجمال، وكيف تحولت الذائقة عن الولع بالإتقان، إلى اقتناص التكوينات العشوائية؟ وإلى أى مدى يمكن للصدفة أن تكون رافدا للإبداع البشري؟

على مر العصور، عرف الفن كنشاط منضبط، وبلغت مهارات الفنانين أوجها مع الحضارات العظمى، وخلال العصور الكلاسيكية. ووصلت مداها خلال عصر النهضة الأوروبي. ولكن سرعان ما تم النظر إلى تلك المحاكاة كغاية سطحية، وللإتقان كمسألة شكلية، تعيق تدفق مشاعر الفنان، وتحجب المعنى. ومع الانتقال للحداثة، صار واضحا أن الإنسان قد تسلم الدفة، مبحرا فى ذاتيته، ومحاولا إعادة تشكيل العالم النسبى وفق رؤاه الخاصة. حلّل الأشكال، حذف، أضاف، وشوّه لأغراض جمالية، عبر مدارس تلاحقت سريعا من التأثيرية إلى التكعيبية، ووصولا للدادية والسيريالية والتجريدية. وبدا أن الطبيعة تتحلل فى أعماله، وينبثق من حطامها عالم جديد، يعيد إنتاج نفسه مع كل عمل. هذه التيارات لم تشكل طفرة على مستوى الممارسة فقط، ولكن دفعت الذائقة أيضا، التى للمفارقة بدأت ترى فى الطبيعة نفسها أعمالا تجريدية وسيريالية، وما بعد حداثية. وكلها بالطبع وليدة الصدفة، وصنيعة العمل العشوائى لقوانين الفيزياء. وكأن الذائقة التى تطورت بالتعالى على الطبيعة، صارت مؤهلة لترى طبقات أعمق من الجمال فى البرية، وعبر المهمل، وحتى المزدرى، وهو جمال حداثي.

فى الفيلم الأمريكى "أوجست رش" إنتاج 2007، يلتقط الطفل الموهوب "إيفان تايلور" الموسيقى من الأصوات العشوائية: من حفيف الأشجار، وقع الأقدام، هسيس الريح، رفرفة الطيور، وحتى رنين الأكواب، وأدوات المائدة. وتمكن بموهبته الاستثنائية من تحويلها إلى مقطوعة موسيقية حقيقية، قاد الأوركسترا لعزفها فى نهاية الفيلم، جامعا شتات أسرته الصغيرة، وشتات الإنسانية عبر الإنصات للجمال السارى فى العالم، وإعادة تقديمه. لنكتشف أن الفن كامن فى كل ما حولنا، وأننا نعيش داخل منجم للجمال، لا تنضب ثرواته، بل تتبدد وتتجدد كل لحظة، مبيحة نفسها بوفرة لمن يرى، ومن يسمع، ولمن يحب المشاركة فى الكرنفال الدائم، الذى تجرى عروضه تحت الغلالة نصف الشفافة للواقع الهش. 

تتشكل السماء على مدار اليوم فى ملايين اللوحات، غير مبالية بالجمهور المنشغل فى صراعاته اليومية. وضمن ذلك يظهر فجأة شكل استثنائى صنعته السحب. قد يشبه كائنا، أو وجها، أو لوحة مكتملة لراعٍ يقود قطيع خرافه المشتعلة أمام شمس الغروب. إنها ليست سوى قوانين الطبيعة، كثافة الهواء، معدل الرطوبة، درجة الحرارة، سرعة واتجاه الرياح، هى ما تسكب أشكالها وتلونها. لكن العمل العشوائي، يتخذ فجأة سمت القصدية، ويبدو كما لو أن يدا بشرية رسمت. فمن المستعد لأخذ اللقطة بسرعة قبل أن تتبدد غمزة عين العالم السحرية؟ العملية نفسها تحدث فى الصحراء، حيث نعثر على أحجار، تبدو وكأنها تماثيل من صنع البشر. فى الصحراء البيضاء، غرب مصر، تقوم سياحة السفارى على ذلك المتحف المفتوح لتفانين الطبيعة، فتلك دجاجة، وهذا أرنب، وهذه امرأة جالسة، وذاك أبو الهول. ولكنها على عكس السحب، تتشكل عبر مئات الآلاف من السنين، ضمن حقب جيولوجية ومناخية، وبالتالى يستمر حضور تلك التشكلات سنوات طويلة. وقد شاركت فى صنعها مياه العصور المطيرة، قبل أن تبدأ الرياح الجافة المحملة بالرمال صقلها. إنه إبداع خالص للطبيعة، لكنه انتظر الإنسان، لاقتناصه، عبر الطواف حوله، للعثور على الزاوية المثالية التى يقول فيها الحجر كلمته.  

لم تكن الصدفة غريبة عن الإبداع حتى لدى الشعوب القديمة، فالطاويون الصينيون اعترفوا بها كجزء من عملهم، بل اعتبروها رمزا لتناغم الإنسان والطبيعة. أحدهم كان يتناول شرابا مسكرا قبل أن يقوم بتلطيخ لفافة حريرية بالطلاء، ويقوم بجرجرتها، والعبث بها، لتتولى الصدفة العمل. لكنه فى النهاية، كان يمسك الفرشاة، ويضع لمساته، لتأكيد بعض الأشكال العشوائية. وكأننا أمام تقسيم للعمل بين الطبيعة والإنسان، وحيث لا يستطيع أحدهما أن يقوم بعمل الآخر، فالطبيعة التى تنحت فى الصحراء، لن تفاجئنا يوما بأنها قد لنا تمثال فينوس، أو مفكر "رودان". فهى كما عوّدتنا، تومئ، ولا تصرح.  

فى الماضي، كان البشر الأكثر رهافة يعثرون على تلك الأشكال، وأحيانا كانوا يعتبرونها رسائل، أو نبوءات كالتى نتوهمها اليوم فى أشكال على جدار فنجان قهوة. والحقيقة أنها لا تخلو من رسائل. فهذا الجمال الاستثنائى الذى يظهر ضمن العشوائية، هو إشارة إلى قانون خفى يسرى عميقا تحت كل شيء. وهو أعمق بكثير من أطروحات العبثيين، أو تشدقات القصديين. والإنسان الذى افتتح إبداعه بمحاكاة الطبيعة، اكتشف أنها تحاكى حداثته، من قبل أن تنشأ الحياة على الأرض. وهى لم تغيِّر سلوكها الأزلي، ولكن كان على الإنسان أن ينضج، ويتمرد، ويذهب بعيدا فى ذاتيته، ونرجسيته، ليكتشف أن كل شيء كان هنا من البداية. وأنه عندما كفر بظاهرها، كان يؤهل نفسه للإيمان بباطنها، ولأنها أعمق من أن تسبر. 

صار بوسع الإنسان أن يرى إبداع الصدفة فى علب طلاء، انسكبت على الأسفلت ضمن حادث، أو إيقاع منتظم لعجلات قطار، يتداخل مع صوت بائع جائل، وضحكة طفل، وهمهمة المسافرين الغافلين عن أنهم يرتحلون على متن سلم موسيقي، وليس قضبانا حديدية. إنها موسيقى ما بعد حداثية بامتياز، كالتى أبدعها شوستاكوفيتش، فى أعماله مقتبسا أصوات الآلات، والمدافع، والقطارات، وارتطام العظام، وصرير المفاصل، ما يسميه النقاد "ما وراء الموسيقى". وهو يبدو مع غياب اللحن عشوائيا أحيانا، لكنه يتضمن نظاما باطنيا، يحتاج إلى استماع عميق لإدراكه. إنه نظام كالذى يحكم فوضى الماء المسكوب، والحصى المنثور، والدخان المتصاعد، وجلبة أمام مدرسة عند خروج التلاميذ. لكن حتى هذه النوتة المأخوذة من النمط العشوائي، جرى التمرد عليها، عبر تيار موسيقى يترك بعض عناصر فنه كليا للصدفة. وهو ما فعله كلٌ من الأمريكيين "تشارلز آيفز" و"هنرى كويل". كما ابتدع "جون كيج" مصطلح اللاحتمية، من خلال ترك مساحات فى مؤلفاته مفتوحة للصدفة أو لإبداع العازف. وحيث يمكن أداء المقطوعة نفسها بطرق مختلفة كل مرة. وهو ما يذكرنا بالارتجال، الذى تعرفه موسيقانا الشرقية، ممثلا فى التقاسيم على الآلات المختلفة، أو تنويعات الأداء التى يبتكرها المغنون عندما يصلون إلى ما يعرف بالسلطنة. وكلها نتاج اللحظة، وتفاعل الجمهور. أفكار "جون كيج" وجدت من يلتفون حولها، فى نيويورك، ومنهم "مورتون فيلدمان" و"إيرل براون" و"كريستيان وولف" مع الفنانين البصريين "وليم دى كونيننج"، و"مارك روثكو" والشهير "جاكسون بولوك"، وهو فنان أمريكى عُرف بالتعبيرية التجريدية، ونفّذ لوحاته من خلال تنقيط الألوان عليها. كما تبنى تلك الأفكار راقصون وشعراء، ومنهم فى أوروبا الملحن الفرنسى "بيير بوليز" الذى أبدع وروّج لموسيقى الصدفة. وعندما أبدع سيمفونيته الثالثة للبيانو، كتب أنه يؤلف الأعمال التى يقدر لها أن تتجدد مع كل أداء، لأن الإبداع يجب أن يتوافق مع الكون النسبي، وأن يظل العمل فى حالة اكتشاف وثورة دائمين، ولا يبقى عالقا فى النوتة التقليدية. كذلك جرى تطوير آلات موسيقية إلكترونية، قادرة على التفاعل مع ردود فعل الجمهور. وتوجد الآن تقنيات وتطبيقات تتيح مقاطع نغمية وإيقاعية، يمكن تركيبها بآلاف الطرق، وإنتاج موسيقى حتى لغير الموسيقيين. كما توجد برامج حاسوبية بإمكانها اختيار النغمات عشوائيا. ويرى البعض أن هذا ليس وليد اليوم، فقد نسب إلى "موتسارت" أنه جرب جعل النرد يختار له بعض النغمات فى بعض أعماله. فهل بإمكاننا أن نعيد النظر فى كل يحيطنا، وأن ننتبه قليلا لالتقاط الجمال الوافر حولنا؟

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة