عائشة عبدالرحمن
عائشة عبدالرحمن


24 عاماً على رحيل عائشة عبدالرحمن .. بنت شواطئ التراث والمعاصرة

آخر ساعة

السبت، 27 نوفمبر 2021 - 11:50 ص

حسن حافظ

تركت بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن خلفها العديد من الكتب والمقالات التى تكشف جوانب إبداعية متنوعة فى منتج إحدى أكبر القامات الفكرية فى مصر القرن العشرين، وإحدى رائدات البحث العلمى الرزين فى قضايا تراثية شائكة، والتى عبرت خلالها بمهارة الباحثة المتمكنة من أدواتها، وقدمت النموذج الواقعى للمرأة المصرية التى تمزج بين التراث والمعاصرة، دون أن تجد فى ذلك أى مشكلة أو عائق نحو إبداعها فى كل المجالات التى اقتحمتها بجرأة وتركت خلفها ما خلد اسمها وجعلها محل تقدير من الجميع.

مع حلول الذكرى الـ24 لوفاة بنت الشاطئ مطلع ديسمبر المقبل، تحتفى آخرساعة بقيمة السيدة المصرية التى حفرت اسمها فى سجل الخالدين، وضربت النموذج والمثل لصورة المثقف فى العصر الحديث، وتركت خلفها سيرة تستحق أن تروى حول كيفية محاربتها تقاليد المجتمع لكى تجد مكانها تحت شمس الفكر.

تحدثت بنت الشاطئ عن نفسها فى كتابها اعلى الجسر بين الحياة والموتب، وأرَّخت لبداياتها فى مدينة دمياط، إذ ولدت فى 6 نوفمبر 1913م، حيث نشأت فى منزل جدها لأمها، الضخم المطل على النيل قرب نهاية رحلته فى حضن البحر، بينما تعلمت من والدها محمد على عبدالرحمن الحسيني، الذى تعلم فى الأزهر، وعين بمدرسة دمياط الابتدائية للبنين، فكان أن تزوج بوالدة بنت الشاطئ، وسمى بنته الثانية بـاعائشةب تفاؤلا باسم أم المؤمنين رضى الله عنها، وكنى وليدته بـ اأم الخيرب، وألحقها بالكتَّاب فى قريته شبرا بخوم فى المنوفية وهى فى الخامسة من عمرها، وبدأ يتعهدها بتعلم المبادئ الأولية لعلوم العربية والإسلام، لتتم حفظ القرآن الكريم سريعا.

وتلقت عائشة عبدالرحمن الصدمة الأولى فى حياتها، عندما طلبت من والدها الالتحاق بالمدرسة كما هو حال صديقاتها، وكانت فى السابعة من عمرها وقتذاك، إذ جاء الرد الصاعق من والدها بالرفض، وأشفع رفضه بقوله: اليس لبنات المشايخ العلماء أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة المفسدة، وإنما يتعلمن فى بيوتهنب، ولم ينقذها من هذا المصير إلا تدخل جد والدتها الشيخ محمد الدمهوجي، الذى أقنع الوالد بإلحاق ابنته النبيهة بالمدرسة، لكن الوالد اشترط أن تواصل دراستها الدينية فى البيت، وأن تنقطع عن المدرسة بمجرد الوصول لسن البلوغ.

لكن بنت الشاطئ لا تعرف المستحيل فقررت الالتحاق بمدرسة المعلمات من المنزل، ونجحت بتفوق فى السنة النهائية، فكانت الأولى على جميع زميلاتها. وانبهرت لجنة الامتحان الشفوى من طلاقتها وعلمها، فزينوا لها أن تلتحق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، لكن الفتاة المجتهدة بدأت مشوار الوظيفة فى مدرسة البنات الملحقة بمعلمات المنصورة، حيث بدأت بعدها فى تعلم الإنجليزية، وحتى هذه اللحظة لم تكن عائشة عبد الرحمن قد نشرت إلا قصيدة االحنين إلى دمياطب فى مجلة االنهضةب النسائية، لكن تواجدها فى القاهرة أتاح لها مقابلة صاحبة المجلة السيدة لبيبة أحمد، وقررت الأخيرة أن تعطى الفتاة الدمياطية الفرصة بتولى رئاسة تحرير المجلة كلها بداية من أكتوبر 1933، أى وهى فى العشرين من عمرها.

بدأت مرحلة جديدة من حياة بنت الشاطئ، تحصل على أربعة جنيهات فى الشهر، مقابل اكتابة بريد المجلة، وإعداد موادها للطبع، وتصدير كل عدد منها بمقال افتتاحى أتفنن فى إنشائه وأوقعه باسم السيدة الكبيرة صاحبة المجلةب، ورغم ذلك لم تنزعج بنت الشاطئ من هذا الأمر، بل اعتبرت الكتابة باسم صاحبة المجلة فترة تدريب على الكتابة، ثم قررت أن تراسل الصحف اليومية، فبدأت نشر بعض القصص فى البلاغ وكوكب الشرق والأهرام، ومع بداية شهرتها قررت اللجوء إلى اسم مستعار، إذ تقول: افكرت فى التستر وراء اسم مستعار، لئلا يعلم أبى بالأمر فيغضب وينكر ويصدر قرارا يحرم فيه على مكاتبة الصحف والاتصال بها... كان أول ما خطر على بالى هو أن أنتمى إلى الشاطئ، مهد مولدى وملعب طفولتيب، ومن هنا ولد لقب ابنت الشاطئب، ونشرت أول مقال لها فى االأهرامب بتاريخ 18 يونيو 1935، وكان عن واقع الفلاح المصرى فى ظل الاحتلال البريطاني، والطريف أنها ظلت تنشر فى االأهرامب حتى قبيل وفاتها بخمسة أيام فقط، أى على مدار 63 عاما.

التحقت الفتاة المثابرة بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) عام 1935، وهو نفس عام التحاقها بهيئة تحرير صحيفة الأهرام، وفى الجامعة بدأت التعرف على أستاذها أمين الخولي، وكان اللقاء فى عام 1936، فى وقت بدأت الفتاة الريفية تكفر بالمدينة وتفكر فى العودة إلى القرية، لكن القدر كان له رأى آخر، تميز اللقاء الأول بالحدة، فالفتاة مملوءة بالغرور والتحدي، والأستاذ يطلق كلمات كالرصاص تكشف تهافت علم الفتاة التى بدأت تدرك أنها تحتاج إلى منهج الأستاذ العلامة، تقول بنت الشاطئ عن اللقاء الأول: امن ذلك اللقاء الأول، ارتبطت به نفسيا وعقليا، وكأنى قطعت العمر كله أبحث عنه فى متاهة الدنيا وخضم المجهولب. تحولت علاقة الإعجاب إلى الحب الذى تكلل بالزواج سنة 1944، بينما حصلت على الماجستير سنة 1941، عن االحياة الإنسانية لأبى العلاءب، ثم الدكتوراه سنة 1950، عن تحقيقها ودراستها لنص ارسالة الغفرانب لأبى العلاء، وذلك تحت إشراف عميد الأدب العربي، طه حسين، لذا تعد من أبرز تلميذاته مع سهير القلماوي.

المعرفة التى اكتنزتها بنت الشاطئ انفجرت كينابيع المعرفة، فانطلقت تؤلف العديد من الكتب فى الفكر الإسلامى والمعاصرة، فحققت ارسالة الغفرانب لأبى العلاء المعري، وكذلك رسالته االصاهل والشاحجب، وألحقتها بمجموعة من الدراسات عن أبى العلاء المعرى ورسالته الشهيرة، منها كتابها امع أبى العلاء فى رحلة حياتهب، ودخلت فى معركة فكرية مع أستاذها طه حسين حول أدب أبى العلاء، وكذلك حول المتنبى فى إطار من الاحترام المتبادل والجو العلمى القابل للاختلاف، كما دخلت فى معركة شرسة مع عباس محمود العقاد، حول حقوق المرأة، بعدما نال منها العقاد، فاندفعت بنت الشاطئ فى الدفاع عنها وعن حقوقها المثبتة فى القرآن والسنة، وتعرضت للسان العقاد الحاد ولكنها لم تلتفت وتمسكت بموقفها، ودخلت فى معركة أخرى مع الدكتور مصطفى محمود، ورفضت ما روج له من التفسير العصرى للقرآن الكريم، أى قراءته وفقا للنظريات العلمية الحديثة، ليصل إلى وجود الإعجاز العلمي، ورفضت هذا الرأى الذى يقود إلى تشويه التعمق والتدبر فى القرآن الكريم.. لم يتوقف إبداع بنت الشاطئ عند هذا الحد، إذ شاركت فى الكتابة الروائية بداية من رواية اسيدة العزبة أو قصة امرأة خاطئةب فتعود بتاريخ كتابتها إلى عام 1942، والتى تقدم فيها نقدا لأوضاع المرأة المصرية وأهم المشكلات التى تعانى منها فى المجتمع كما خبرتها بنت الشاطئ، كذلك كتبت رواية ارجعة فرعونب سنة 1948، الذى استخدمت فيه اكتشاف مقبرة الفرعون بسوسنس الأول، لبناء رواية تستعيد الماضى من أجل طرح أفكار تشتبك مع الواقع، كما يمكن أن نحس بنفسها الروائى فى سيرتها الذاتية بعنوان اعلى الجسر بين الحياة والموتب والتى كتبتها تأثرا بوفاة زوجها وأستاذها أمين الخولى عام 1966، كما ظهر نفسها الروائى وحسها الشعرى فى كتاب ابطلة كربلاء.. السيدة زينبب، كما كتبت عدة كتب عن آل البيت، من أشهرها انساء النبىب، واتراجم سيدات بيت النبوةب.

وتصف الدكتورة نها محمد عثمان، فى بحث بعنوان ابنت الشاطئ: السياق المعرفىب الأخيرة بقولها: اإن بنت الشاطئ كانت رمزًا من رموز جيل عظيم منح الثقافة العربية والإسلامية مكانتها الرفيعة، هذا بجانب أنها من الجيل الأول من قادة الحركة النسائية فى مصر التى استطاعت أن تؤكد دور المرأة العربية والمسلمة وحقها فى التعليم والعملب، لافتة إلى أن بنت الشاطئ تلقت العديد من الأخبار الكارثية فى حياتها بإيمان واحتساب، فبعد رحيل زوجها، رحل ابنها المهندس أكثم فى الـ 38 من عمره إثر حادث أليم عام 1991، كما ماتت ابنتها أمينة بعد أن حصلت على الدكتوراه فى الرياضيات بأقل من عامين، وتلقت هذه الأخبار المفجعة بإيمان صادق وصبر عميق، بينما هاجرت ابنتها الثالثة أديبة مع زوجها.

من جهته، يقول الدكتور نجيب عثمان أيوب، أستاذ الأدب العربى بجامعة حلوان، إن تجربة بنت الشاطئ مهمة جدا وملهمة، لأنها اتعبير عن خليط اجتماعى فجدها من الصعيد وعاش فى المنوفية حيث أنجب والد بنت الشاطئ، الذى تزوج بدوره من زوجته الدمياطية، وعاش هناك، فأثر هذا التنوع على شخصية بنت الشاطئ التى تشربت الروح المصرية، فعرفت التعليم الدينى الأزهرى على يد والدها، والصوفى على يد والدها وجدها لأمها، ثم تعرفت على التعليم المدنى والانفتاح على المناهج الغربية عندما ذهبت إلى القاهرة، وتعلمت على يد أستاذها وزوجها أمين الخولي، فنتج من هذا الخليط قواسم مشتركة أنتجت شخصية وسطية وروحا متوازنة استفادت من كل هذه المنابع الفكرية فى صناعة تجربة شديدة الخصوصية أفادت بها كل من قرأ لها.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة