محمد حسين هيكل
فى ذكرى رحيله l هيكل.. طلق المحاماة من أجل الأدب والفكر
السبت، 11 ديسمبر 2021 - 10:54 ص
حسن حافظ
شهد النصف الأول من القرن العشرين فى مصر ثورة معرفية هائلة، وميلاد أسماء زينت سماء الأدب والفكر، ضربت بسهم فى مختلف مناحى الحياة الثقافية فتركت معالم لا يمكن نسيانها، وربما يكون من طليعة هذه الأسماء محمد حسين هيكل، الذى يعد أحد أهم نجوم الثقافة فى النصف الأول من القرن الماضي، والذى يقارن بأسماء من طراز طه حسين وعباس العقاد، والذى لم يترك مجالا إلا ووضع فيها علامات كالنجوم.
فى مجال الرواية كتب محمد حسين هيكل (زينب) التى ضمنت لها ريادة فى العالم الروائي، كأول رواية فنية متكاملة، وفى الفكر الإسلامى كتب رائعة (حياة محمد) الذى ظل فى خانة الأكثر مبيعا لسنوات وسنوات، وفتح على الغرب نافذة عبر دراسة لم تفقد قيمتها عن فيلسوف عصر الأنوار جان جاك روسو، فضلا عن أدواره فى السياسة والصحافة المصرية، ما يجعل منه ظاهرة تستحق الاحتفاء وتسليط الأضواء عليه فى ذكرى رحيله التى تهل علينا فى 8 ديسمبر من كل عام، خاصة أن الأجيال الشابة تخلط بينه وبين سميه الأصغر الصحافى الكبير محمد حسنين هيكل والذى سطع نجمه هو الآخر فى النصف الثانى من القرن العشرين.
لا يمكن حصر حسين هيكل فى خانة إبداعية واحدة، فهو جم النشاط ومبدع فى كل ما كتب، ساعده على ذلك خلفيته العلمية الواسعة، فالرجل الذى ولد فى 20 أغسطس 1888، بقرية كفر غنام بمركز السنبلاوين بالدقهلية، درس القانون وتخرج فى مدرسة الحقوق الخديوية بالقاهرة عام 1909، ثم سافر على نفقة والده ليحصل على شهادة الدكتوراه فى الحقوق من جامعة السوربون العريقة عام 1912، ليعود بعدها إلى القاهرة وهو يجمع بين يديه روح الشرق والغرب، وكان قد تأثر فى هذه الفترة بكل من محمد عبده وجمال الدين الأفغانى وأحمد لطفى السيد، وتوطدت علاقة الأخير بهيكل بسبب علاقة نسب تجمعهما، ما يسر له النشر فى صحيفة "الجريدة" لسان حزب الأمة، بداية من عام 1907، وكان من الطبيعى أن يتأثر هيكل بأفكار أستاذ الجيل لطفى السيد، التى تنادى باستقلال الأمة المصرية بعيدا عن الاحتلال البريطانى والتبعية العثمانية.
ولدت فكرة رواية (زينب) من المقارنة بين الريف المصرى والفرنسي، بعين ناقدة مثل عين هيكل، الذى يقول فى مذكراته، عن مقارنته لأوضاع الريف الذى زاره فى أثناء الإجازة الصيفية من دراسته فى فرنسا وأوضاع الريف الفرنسي: "لقد حز فى نفسى ما رأيت من حال ريفنا. فكم من بيت عمدة دخلناه... فإذا البيت أدنى إلى منازل أشد الطبقات فقرًا... والطرق فيما بين القر لا تتسع لأضيق العربات تسير فيها... وليس هذا كله نتيجة الفقر، بل نتيجة الجهل، ونتيجة الخوف من الظلم... آلمنى ما شهدت من ذلك كله، وزاد فى إيلامى أننى كنت قبل ذلك بأشهر قد ذهبت مع صديقى شهدى بطرس نزور منطقة اللوار... فإذا وقعت أعيننا على ما يؤذى العين لمنافاته مقتضيات النظافة أو الذوق عددنا هذا استثناء... أما والاستثناء فى فرنسا هو القاعدة فى مصر، فما كان أشد حزنى وألمي". ويبدو أن هذه المقارنة التى خرج بها هيكل هى ما دفعته لكتابة روايته (زينب) بعنوانها الفرعى (مناظر وأخلاق ريفية)، والتى كتبها عام 1913، ونشرها دون كتابة اسمه واكتفى بالتوقيع "فلاح مصري" ربما لأنه وهو الحاصل على درجة الدكتوراه من السوربون فى موضوع الدين العام لمصر، أن تلحقه مذمة كتابة الرواية التى لم تكن حصلت على شرعية وجودها فى مصر بعد.
لم يتوقف هيكل عند محطة (زينب) كثيرا بل انخرط فى حياته العملية كمحام لكنه عاد ودخل عالم السياسة من أوسع أبوابه بعد ثورة 1919، إذ كان عضوا فى لجنة الثلاثين التى صاغت دستور 1923، والذى يعد أعظم الدساتير المصرية، ثم التحق بحزب "الأحرار الدستوريين"، الخصم الرئيس لحزب "الوفد" برئاسة سعد زغلول، وأصبح هيكل رئيس تحرير جريدة "السياسة" الأسبوعية لسان حزب "الأحرار الدستوريين"، وقد تولى منصب وزير المعارف أكثر من مرة، كما تولى رئاسة الحزب بداية من 1943، ثم أصبح رئيسا لمجلس الشيوخ بين سنوات 1945 و1950، وترأس وفد مصر فى الأمم المتحدة، كما تولى رئاسة اتحاد البرلمانات الدولي.
هذه الحياة الصحفية والسياسية الحافلة لم تمنع الدكتور هيكل عن القلم ولم تبعده عن الورق، ففى عام 1935، نشر أهم كتبه وأكثرها انتشارا وذيوعا؛ "حياة محمد"، وهو محاولة لدراسة سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكانت محاولته تلك فى إطار رده وتفنيده لآراء بعض الأوروبيين الذين درسوا حياة نبى الإسلام من منظور متعصب ضيق فأخذ يرد عليهم بمنهج عقلانى الحجة بالحجة، ويفند أوهامهم وأخطاءهم، فى كتاب حقق نجاحا ساحقا كان محل غيرة بعض الكتاب أمثال عباس محمود العقاد، الذى بدأ فى كتابة سلسلة العبقريات بعدها، واستثمر هيكل نجاحه فكتب "فى منزل الوحي"، وعن أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب، والكثير غيرها من الكتب فى شتى المجالات، وظل يكتب حتى وفاته فى ديسمبر 1956.
ويحلل حلمى النمنم، الكاتب والناقد ووزير الثقافة الأسبق، لـ"آخرساعة"، الأوجه الإبداعية المتعددة لهيكل، قائلا: "هو أحد رواد الثقافة المصرية بحق، وعلى أكثر من مستوى سواء إبداعيا أو فكريا أو صحفياً أو سياسيا، وقد سافر هيكل إلى فرنسا وتعلم على حسابه الشخصي، بما يكشف عن نهم للمعرفة والتعلم، فهو لم يكن من ضمن الطلاب المصريين الذين ابتعثتهم الحكومات المصرية إلى أوروبا، بل إن الرغبة فى التعلم هى ما قادته إلى السفر، وانفتح فى فرنسا على المنتج الثقافى الغربي، ما مكنه من أن يفتح الطريق أمام الفكر والإبداع المصرى فى الكثير من المجالات".
وتابع:" فى الرواية كان هيكل مجددا عبر روايته (زينب)، فصحيح أن هناك روايات سبقتها لكنها تعد أول رواية أدبية مكتملة، الأولى التى تجعل موضوعها عن الريف والواقع المصري، فهو أول من تستطيع القول إنه أول من مصَّر فن الرواية، وليس على مستوى الكتابة والشكل فقط، بل التمصير فى الموضوع، فى أن يصبح الريف المصرى والفلاحة المصرية والقضايا الاجتماعية فى القرية المصرية موجودة داخل عالم الرواية، وله الفضل فى ذلك".
وأشار إلى أن هيكل ممن "فتحوا عيونا على الفكر الغربي، فله كتاب مهم فى هذا الصدد عن الفيلسوف الفرنسى جان جاك روسو، وأنا ذهلت عندما كنت فى زيارة إلى جنيف، وذهبت لزيارة متحف جان جاك روسو، بهرت أن وجدت صورة لهيكل باشا ضخمة جدا وهو بملابس التشريف، لأن الأدب الفرنسى والقائمين على المتحف يعتزون بشدة بدراسة هيكل عن روسو، ويعتبرون أن هذه الدراسة المبكرة من أهم الدراسات عن روسو على مستوى العالم، ومن حسن الحظ أن هذا الكتاب لا يزال يطبع فى العالم العربى حتى الآن، وإن كان لم يحظ بالشهرة والاهتمام المستحق بعد".. ولفت النمنم إلى أنه من أهم جوانب إبداع محمد حسين هيكل تجديد النظر فى الفكر الإسلامي، عبر التعامل مع السيرة النبوية فى كتابه الأشهر (حياة محمد)، ثم ما أعقبه فى كتابه (الصديق أبو بكر)، وكتابه الآخر (الفاروق عمر)، وكان فى طور إعداد كتاب عن الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان لكن العمر لم يسعفه لإنهائه، فتم نشر ما ألفه منه بعد وفاته، كما تم جمع عدد من دراساته عن التاريخ والحضارة الإسلامية فى كتب بعد ذلك، والتى تكشف عن نفس باحث قدير".. ومن الأدوار الثقافية التى لعبها محمد حسين هيكل الدور الصحفى باعتباره من مؤسسى جريدة االسياسةب الأسبوعية، وكان رئيس تحريرها، ويقول عنها حلمى النمنم: "هى جريدة مهمة فتحت الباب أمام أجيال من الصحفيين وأجيال من الكتاب الكبار والعظام فى تاريخ مصر، فكان يكتب فيها الشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ على عبد الرازق والدكتور طه حسين، وعشرات الأسماء غيرهم.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة