للكاتب الأمريكي الشهير ألفين توفلر كتاب شهير عنوانه « صدمة المستقبل»، أشار فيه إلي أن الإنسانية سوف تشهد عالماً مختلفاً عما عاشته في الماضي أو تعيشه في الحاضر، وأن هذا العالم سيكون من الغرابة والاختلاف بحيث يشكل « صدمة» لكل إنسان يعيش فيه، وأن الإنسان لن يكون قادراً علي التعامل مع مفردات هذا العالم الجديد إلا بصعوبة بالغة.. وبعيداً عن كلمة المستقبل الذي أشار إليها توفلر كثيراً، فإن المشكلة في مجتمعنا المصري تتشكل في صعوبة التعامل مع الواقع، ناهيك عن المستقبل.. الواقع بأنواعه في مصر يشكل صدمة في حد ذاته..
في مجال التعليم، صدمة المستقبل تدفع المشتغلين في مجال التعليم إلي الحصول علي مخرجات تستطيع امتصاص هذه الصدمات، وتستطيع التعامل بسهولة مع مدخلاته.. في مصر، التعليم يهدف إلي زيادة الواقع تعقيداً، وإلي اعتبارات شكلية وديكورية.. التعليم المصري بوضعه الراهن لا يراهن علي المستقبل ولا يستطيع فك شفرته.. التعليم الراهن يضيف إلي مشكلاتنا أبعاداً مختلفة.. وليست قضية التعليم المفتوح التي أشرنا إليها في مقال الأسبوع الماضي عن هذا ببعيدة..
في مجال الإعلام، لننظر إلي برامج المقالب المنتشرة في فضائياتنا هذا العام.. برامج مكلفة جداً، وبذل فيها جهد كبير.. لكن ما الهدف منها وما العائد من ورائها.. لا شيء.. حتي علي مستوي الإبداع لم يكن إبداعاً مصرياً أو عربياً بل تمت الاستعانه بفرق عمل أجنبية خالصة باستثناء مقدمي هذه المقالب.. برامج رمضان تزيد الواقع تعقيداً، وتزيدنا غربة عنه.. ما هكذا يكون انتزاع الضحكات، ولا رسم الابتسامات.. وما يقال عن برامج المقالب يقال عن كثير من المسلسلات.. كله «فيك»، ولا يساعد علي إدارة الحوار مع الواقع ولا فتح القنوات علي المستقبل..
اي إنسانية هذه في برامج المقالب ؟فماالذي يمكن ان يحدث لو سقط احد المخدوعين بمقابل ميتا ؟ وإن كان يمثل فما اسخفه تمثيلا... اي فائدة هذه التي تعود علي المواطن المصري الذي يحتاج ان نعلمه كيف يتعامل مع الواقع ويغيره... انها مقالب مدفوعة الثمن ضد مصر. ان هذه البرامج لو كانت موضة في بلاد اخري فهي بلاد تفوقت في التعامل مع الواقع ثم جلست تبحث عن ترفيه حتي لو كان غبيا فأين نحن من التفوق في التعامل مع الواقع..
مستوي الحوارات الاجتماعية بيننا هي حوارات تؤدي إلي التنازع والصراعات أكثر من قدرتها علي حل المشكلات والاختلافات.. كل واحد فينا يحاول المصادرة علي رأي الآخر، ويحاول أن يزايد عليه.. حواراتنا هي شجارات وصراعات أكثر منها ساحات لتبادل الحوار.. جرب ذلك في التليفزيون.. جرب أن تغلق الصوت وأن تري كيف يتحدث الناس وكيف يستخدمون أيديهم.. النتيجة مفزعة.. واقعنا الاجتماعي مفزع.. ومساحات القطيعة بيننا أكبر من مساحات التواصل.. صدمة الواقع أشد عنفاً من صدمة المستقبل..
قرأت قديماً عبارة لست أعرف قائلها تنص علي أن « الواقع أبسط من أن نعقده، وأعقد من أن نزيده تعقيداً».. ببساطة، خد الواقع كما هو، بدون تعديل، وبدون تغيير.. حاول أن تتكيف معه كما هو.. نحن للأسف لا نجيد ذلك.. نحن نبسط الأشياء المهمة إلي حد التفاهة، ونعقد الأشياء البسيطة إلي حد الرذالة.. لا يوجد لدينا منطقة وسط في التعامل مع الواقع، ولا في محاولة فك شفراته المجتمعية.. ولذا تزيد لدينا الصراعات، التي غالباً ما تكون علي الفاضي..
نحتاج إلي قدر من الهدوء حتي نستكشف كيفية التعامل برشد مع الواقع، قبل أن ننتقل إلي المستقبل.. فإن لم نستطع التعامل مع الواقع، فلن نستطيع التعامل قطعاً مع المستقبل..