رفعت الجلسة | عين خلف النافذة
رفعت الجلسة | عين خلف النافذة


رفعت الجلسة | عين خلف النافذة

الأخبار

الخميس، 30 ديسمبر 2021 - 04:42 م

قرر القاضى تأجيل الحكم فى القضية إلى حين حضور الزوج، فالوقائع التى بين يديه تؤكد أن ذلك «الغائب« مريض نفسيا لايصلح ان يكون رب أسرة، فالزوجة قد عددت فى دعواها أسباب ذلك، والأطباء قدموا تقاريرهم التى تؤكد ما انتهى إليه الجميع، لكن ذلك القاضى أراد أن يتأكد بنفسه أن هذا «الزوج« مريض فاقد للعقل ولا يقوى على أن يكون رب أسرة.

على الجانب الآخر كان استدعاء ذلك الزوج إلى المحكمة أصعب عند زوجته ومحاميها وأسرتها من حكم الطلاق، فمن سيقنع ذلك «المختبئ« داخل حجرته بالحضور إلى قاعة يزورها المئات يوميا. . هى نتيجة لا يعرف عواقبها سوى المقربين منه.


لم يدرك القاضى أن ذلك الذى يريد استدعاءه لم ير الشارع منذ 6 أشهر سوى عبر ثقب أحدثه داخل نافذة حجرته، هو يعيش منعزلا، لا يتحدث مع أحد، شاردا غير عابئ بما يحدث فى الخارج، تقوم على خدمته خادمة أبيه وأمه «الراحلين« وتقدم له الاكل عبر نافذة صغيرة داخل حجرته التى يختبئ بها فى أحد منازل قرى محافظة كفر الشيخ.
لكن رغم ذلك تدخل صديق الدراسة بإيعاز من والد زوجته، دلف إلى حجرته ليلا، وأقنعه بالحضور إلى المحكمة لكى يكتب نهاية زواج لم يدم سوى أشهر.
انعقدت الجلسة بعد أسبوع من طلب القاضى رؤية الزوج ليصدر حكمه النهائى فى دعوى الطلاق المقامة من الزوجة.


قبل بدء الجلسة لم تفارق أعين الحضور ذلك الزوج، الذى حضر بصحبة صديق الدراسة، ليتخذ مقعدا فى الخلف بعيدا عن مقاعد الحضور، لكن رغم ذلك كان تائها يفرك فى أصابع يديه، هناك شيء يقلقه، فمنذ أشهر كان منعزلا فى حجرته، واليوم أصبح محاصرا بمئات من البشر الغرباء عنه.


كانت الزوجة على أعصابها، فهى تخشى من حديث ذلك الزوج، فقد ينطق ببعض الأسرار التى لا يجب أن يعرفها أحد، هى تعلم أنه عاقل لكنه مهتز نفسيا يخشى الناس، ويعشق العزلة، وتنتابه نوبات صرع بعدها يصرخ، ثم يضرب كل من يقابله .. دقائق ويهدأ ثم يخلد إلى حجرته لعدة أيام لايخرج منها.


نادى القاضى على ذلك الزوج، طلب منه الحضور أمام المنصة للحديث معه، لكنه أومأ برأسه دليلا على الرفض، ثم أشار بيده إلى القاضى ليخبره أن هذا المكان أفضل، هنا أدرك القاضى أن هناك بوادر من شخصية ذلك الزوج يجب أن يبنى عليها حكمه.


لم يرد القاضى أن يجادل مع ذلك الزوج فقد كون عقيدة حول سلوكه، لكنه اكتفى بسؤاله .


زوجتك تطلب الطلاق بماذا ترد؟
لم يجب ذلك الزوج مباشرة على القاضى، ظل صامتا لثوان، بعدها أخبره أنه لم يفعل شيئا لتطلب زوجته الطلاق، هو يعيش ملكا متوجا فى حجرته، وهى تثرثر كثيرا، هو لا يحب الخروج، ، لكنها تحبه، وتحضر أسرتها يوميا إلى المنزل يتسامرون ويصدرون أصواتا مزعجة، وهذا الأمر يقلقنى ويجعلنى أميل إلى العزله فى حجرتى.


أدرك القاضى أن ذلك الشاب مهتز نفسيا، فحركاته وهو يتحدث تؤكد ذلك فتارة يجلس، وتارة أخرى يقف، لكنه أراد تكوين عقيدته بنفسه قبل أن يصدر حكمه النهائي.


عاد القاضى فسأل الزوج «أنت طبيب لماذا لا تعمل فى مهنتك؟..هنا ظهرت بوادر التوتر على ذلك الشاب، أعاد هذا السؤال إلى ذاكرته ما كان يريد أن يتناساه خلال سنوات مضت، ذهب بعقله إلى واقع كان يخشى البحث فى أوراقه من جديد.


انتابت الزوج هزة نفسية، أخذ يتمتم بكلمات غير مفهومة، يحرك يديه يمينا ويسارا، بعدها بكى، ثم جلس على المقعد وتجاهل الجميع.


.. فى هذه اللحظة رفع قاضى الأسرة بمحكمة كفر الشيخ الجلسة .. وبعد دقائق أصدر حكمه بقبول دعوى الطلاق وتطليق الزوج.


قصة ذلك الشاب كانت حديث أهل القرية، فمن يعبر الشارع يشاهد عينا تنظر من ثقب نافذة أحد المنازل، يتساءلون من ذلك المختبئ خلف النافذة يراقب الناس ذهابا وإيابا .

وعندما يدركون أنه الطبيب يضربون كفا على كف ويتذكرون مهاراته الطبية وحياته الأسرية مع والده ووالدته التى كانت تعج بالثراء الفاحش.


كان ذلك الطبيب فتى مدللا لأب يملك من الأطيان الكثير، وأم ينحدر نسبها إلى عائلة تركية سكنت القرية منذ زمن، فهو الابن الوحيد لهما، سخر له أبوه كل ما يملك حتى يحجبه عن الناس ويوفر له المكانة العلمية التى يتمناها له.


منذ صغر ذلك الشاب وهو يملك لاءات كثيرة كان عليه ألا يتخطاها، مطلوب منه ألا يلعب مع أطفال الجيران، وألايخرج من حجرته إلا عند الحاجة الضرورية، وأن ينظر إلى كتابه فقط، دائما ما كان يخبره والده أن كل هذه الأملاك ستكون له، لذلك عليه أن يكون وحيدا، حتى لا يختلط به من يسرق ثروته.


مرت السنوات وذلك الشاب يكبر وحيدا، ليس له صديق إلا كتبه ومذاكرته، لا يتحدث مع أحد سوى أبيه وأمه، الشارع لا يراه الا عبر نافذة، فالأم كانت تؤمن بالحسد والأب كان يخشى حقد الناس فقررا أن يعزلا ابنهما عن الجميع.


كبر ذلك الفتى ودخل كلية الطب ومن هنا بدأت مأساته، لم يستطع التواصل مع زملائه فى الجامعة، استأجر له أبوه بيتا فى المدينة ليسكن فيه وحيدا خلال فترة دراسته بالكلية.


تولدت بداخله العزلة فوق العزلة ،واعتاد على المكوث بمفرده سنوات وسنوات، فنادرا ما يزوره والده، فكان يعوضه بالمال الكثير جراء ذلك، مرت السنوات وتخرج ذلك الشاب من كلية الطب، لكن لم يكن القدر حليفا له، توفى والده بعد أيام من تخرجه، ولم يجد أحدا بجواره سوى تلك الأم المريضة التى تحتاج الى رعاية .


كان ذلك الشاب حائرا، بين عمله الحكومى فى أحد مستشفيات المحافظة والذى دخل حيز التنفيذ، وبين والدته المريضة التى تموت أمام عينيه وتحتاج اليه بجوارها.


حاول ذلك الشاب أن يوازن بينهما لكنه لم يستطع، ركن أخيرا الى رعاية والدته أغلق عليهما باب منزلهما، وأخذ يخدم فيها سنوات، حتى فارقت الحياة بعدها اعتزل منزله، ترك أطيانه يديرها غيره، فهو لايعرف ما لديه من أموال ، فكان أبوه يبعده عن التجارة والأطيان ويطلب منه فقط أن يركز فى تعليمه وحياته الخاصة.


حاول الشاب ان يخرج الى الناس، فتح عيادة مؤقتة فى منزله، كان يستقبل فيها أهل القرية الفقراء يعالجهم مجانا وبمهارة وكفاءة كبيرة، حتى أقنعه صديق الدراسة بالزواج من فتاة تسكن قرية بجوارهم.


وافق الشاب وانعقد الزواج وبعد شهرين لم يستطع الاستمرار، تولدت إليه العزلة من جديد، رفض الناس، وأغلق عيادته، واعتزل حجرته، وأوصد باب شقته على نفسه لا يستقبل أحدا ولا يتحدث مع قريب أو غريب.


لم يستطع ذلك الشاب أن يعيش مع أحد غير أبيه وأمه، كان يفضل العزلة فى حجرة منزله، عن الجلوس مع زوجته، لم يقترب منها هكذا كان السر الذى أفصحت عنه الزوجة للقاضى فى المحكمة.


لم تتحمل الزوجة هذا الشخص الغريب، تركته وحيدا فى غرفته، منعزلا، يراقب الناس عبر ثقب نافذته، لا يريد أى يقابل أحدا او يتحدث مع أى شخص مهما كانت صلة القرابة أو الزمالة معه.


استراح ذلك الشاب لخادمة أبيه، اعتبرها انها اخر رمق من تلك الأسرة التى رحلت عنه وتركته وحيدا لا يستطيع ان يواجه المجتمع بغير الطريقة التى رباها عليه أبوه.


كانت خادمته هى الشخص الوحيد ومازالت التى يفتح لها باب شقته، فرغم عمرها الذى تجاوز السبعين عاما إلا أنها صاحبته الوحيدة فى الدنيا، حتى إن الاقربين منه يخشون انه عندما تفارق الحياة ستسوء حالة ذلك الطبيب الماهر الذى اعتزل الناس قبل ان يتحدث معهم ويختلط فى شوارعهم.


مأساة هذا الطبيب كما كشف أقرباؤه انه ليس مريضا نفسيا كما ارادت زوجته والأطباء تأكيده، لكنه عاش وحيدا رغم وجود أسرته، محاطا بلاءات كثيرة تحمل فى ظاهرها الخشية عليه وفى باطنها عزله عن الناس.


لم يسترح الى المجتمع الذى يحيط به، فهو دائما يشبع رغباته واحتياجاته بنفسه ، يتحدث مع كتبه لكنه لم يستطع ان يصاحب مرضاه أو يتخذ من زوجته صديقا له.


مأساته أنه وضع خادمته فى منزلة أبيه وأمه، فلا يتحدث الا معها، ولا يعرف أحوال العامة الا من خلالها، اما الشارع والحياة فى الخارج فتكفى نظرة من عينيه عبر ثقب نافذته ليدرك أنه مازال على قيد الحياة.

 

 

اقرأ ايضا | رفعت الجلسة | سرٌّ مع أبى


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة