جمال فهمي
جمال فهمي


من دفتر الأحوال

شياطين بوجوه بشرية

جمال فهمي

الخميس، 30 ديسمبر 2021 - 06:06 م

الانتهازيون .. عفانا الله وعفاكم ، نعرفهم ونشاهدهم فى كل ركن من المجتمع وفى أى وكل مجال ، والانتهازى من سماته أنه بلا عقيدة ولا يؤمن بشيء وإنما كل شاغله فى الحياة رغبته المحمومة فى بلوغ القمة ونيل المناصب بلا تعب ولا مؤهلات إلا استعداده الدائم لتبنى أى عقيدة أو فكرة مهما كانت ، والتنقل بينها بسرعة ويسر وخفة ـ تحسده عليها العصافير ـ  من دون أدنى شعور بالقلق لما قد يكون بين هذه العقائد من تناقض وتنافر ، إذ لا شيء يهم الانتهازى سوى اشباع رغبته المحمومة فى الترقى ولو على جثث الضمير والأخلاق ، والبشر أيضا لو لزم الأمر.

هذا النوع القميء من الناس عالجه الإبداع الأدبى كثيرا ، غير أنه بين فيض حكايات الانتهازيين فى الأدب تبرز رواية «مفيستو» للكاتب الألمانى كلاوس مان (1906 ـ 1949) الذى سار على خطى ابيه توماس  وعمه هنريش ، غير أن حياته القصيرة فى الدنيا  جعلت نصيب «مان» الإبن من الشهرة أقل كثيرا مما حققه الوالد والعم ، فقد أنهى حياته بالانتحار  قبل أن يكمل عمره الـ43 عاما .

أما رواية «مفيستو» فتحكى الحكاية الحقيقية لفنان مسرحى ألمانى كبير ذاع صيته فى البداية بسبب مواقفة التقدمية المنحازة للحرية والعدالة وجحافل الفقراء وبسطاء الناس ، لكنه انقلب فجأة على نفسه لأسباب انتهازية بحته وصار بوق دعاية فجة لشعارات وسياسات النظام النازى ، وفى المقابل راح يتقلب متنعما فى المناصب الفنية الرفيعة بعدما لفت نظر وحاز اعجاب أودلف هتلر نفسه وباقى القادة النازيين.

لقد رأى كلاوس مان فى سيرة هذا الفنان بالذات نموذجا لقطيع الانتهازيين من الكتاب والفنانين الذين اختاروا أن يكونوا ضمن الفيالق النازية ليس عن اقتناع وإنما رغبة منهم فى حصد المغانم والمكاسب غير المشروعة ، وربما كان هذا هو سر اختيار «مان» لاسم «مفيستو» ليسمى به بطل الرواية والرواية أيضا ، فهذا الاسم مشهور  فى الثقافة الغربية عموما والالمانية خصوصا  ، باعتباره أحد الاسماء الشائعة للشيطان.

الوقائع التى يرويها كلاوس مان فى روايته «مفيستو» تكاد تتطابق تماما مع وقائع الحكاية  الحقيقية للمسرحى المشهور المشار اليه ، حتى أن كل من قرأ الرواية لم يخالجه ذرة شك أن بطل الرواية هو نفسه ذاك الرجل .. حدث هذا رغما عن إصرار «مان» على تكرار النفى مرة تلو الأخرى ، والقول بأن وقائع الرواية وشخصيتها الاساسية هى محض خيال وتشير إلى «مجرد نموذج» من النماذج البشرية ولا تقصد شخصا محددا بعينه.

وأعود الى سر اختيار كلاوس مان لاسم الشيطان «مفيستو» بالذات لكى يسمى به بطله وروايته .. يبدو أنه كان يقصد أن لا فرق بين الانتهازى والشيطان ، فكلاهما يشترك مع الآخر فى القدرة على اجتراح كل أنواع الشرور والموبيقات ، كما أن كل منهما يمتلك موهبة لا سبيل لإنكارها ، انه بمقدوره التلون والتغير والتنقل السريع من موقف لعكسه ومن عقيدة وفكرة لنقيضها من دون أن يهتز لأى منهما جفن أو يرمش لهما رمش!

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة