د. مصطفى رجب
د. مصطفى رجب


يوميات الأخبار

شعراء الفكاهة .. موظفون في الحكومة

الأخبار

الإثنين، 28 مارس 2022 - 05:24 م

بقلم: د. مصطفى رجب

أجاد الشاعران المتعاصران «محمود غنيم» و«محمد الأسمر» وصف معاناة الموظفين خير إجادة، فقد جمع بينهما أن كلاً منهما بدأ السلم الوظيفى من أدنى درجاته إلى أعلاها

موظفو الحكومة يستحقون الشفقة فى كل زمان ومكان، فهم وقود التنمية الرخيص، وملح حياة الناس اليومية الذى يأتدمون به، وهم فوق ذلك ومع ذلك وبين ذلك كله: مادة صالحة للسخرية والتفكه والتندر، لما يبدر منهم من سلوكٍ ناب، أو ردٍّ خشن، ولما يميل إليه بعضهم من حب الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وقد اتخذ منهم الشعراء ورسامو الرسوم الهزلية (الكاريكاتير) مادة ثرية لاستجلاب الضحك، وتوليد النكت، واتخذ منهم كتاب القصة و المسرح-فى الشرق والغرب-مادة رائعة للدراما المسلية كما نرى أقصوصة «تشيكوف» الشهيرة «موت موظف».

وقد أجاد الشاعران المتعاصران «محمود غنيم» و«محمد الأسمر» وصف معاناة الموظفين خير إجادة، فقد جمع بينهما أن كلاً منهما بدأ السلم الوظيفى من أدنى درجاته إلى أعلاها، فقد بدأ «غنيم» حياته الوظيفية معلماً وما زال يرتقى حتى بلغ وظيفة عميد مفتشى اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم. وبدأ «محمد الأسمر» حياته الوظيفية موظفاً إدارياً صغيراً فى وزارة الأوقاف حتى بلغ منصب أمين عام الوزارة.
وبين هذه وتلك من مراحل النمو الوظيفي، كانت أبيات كلا الشاعرين تتردد فى الأوساط الأدبية وتذيعها الصحف على الناس، فيتناقلها الظرفاء والأدباء فى مجالهم.

والشعر الفكاهى فى مجال التندر بحياة الموظفين ومعاناتهم يتخذ مسارات شتى فمن شكوى غلاء المعيشة وضعف الرواتب، ومن شكوى الظلم الإدارى والنقل التعسفي، إلى شكوى الرسوب الوظيفى وضعف الترقيات، غير أن هذه الشكاوى قد تبلغ أحياناً حد المرارة فتصبح لوناً من «الكوميديا السوداء» حين يقول محمود غنيم متحسراً عن مكانة الشاعر المعلم فى مجتمع يحتفى بالفن والفنانين، ويدير ظهره للعلم والعلماء والشعر والشعراء، فيقول:
إلى مَنْ أشتكى يا رب ضَيْمي؟..
 أرى نفسى غريباً بين قومي!!
لقد هتفوا لـ«محمودٍ شكوكو» ..
 وما شعروا بـ«محمودٍ غُنَيْمِ»!!

المكافأة تأخرت
ونبدأ مع الشاعر محمد الأسمر الذى انتدب ذات مرة من وزارة الأوقاف فعمل بعض الوقت لدى وزارة الداخلية لمراقبة بعض مطبوعاتها، وتأخرت وزارة الداخلية فى صرف مكافأته عن هذا العمل الذى ندبته له. فلما سأل الشاعر عن سبب تأخر صرف المكافأة قيل له إن «عبد الرحمن عمار بك» وكيل وزارة الداخلية لم يوقع الأوراق، فكتب الأسمر إليه يذكّره بأن طلب صرف المكافأة الخاصة به قد زكاه «الرئيس» إبراهيم عبد الهادى باشا رئيس الوزراء، ووقع عليه «توفيق صليب» مدير المطبوعات بالوزارة:
(عمَّارُ) يا أخا الأدبْ.. لى عندكم حقٌ وجبْ
بالأمسِ زكّاه (الرئيـ .. ـسُ) خيرُ من زانَ الرُّتبْ
وقال (توفيقٌ) دنا.. ما ترتجيهِ واقتَربْ
وكلَّ يومٍ لم أزلْ.. أسألهُ وأرتقبْ
ويصف الأسمر ليالى انتظار المكافأة الطوال اللاتى يخاصم فيها النوم عينى شاعرنا حتى لكأنه محب عاشق ينتظر وعداً باللقاء من حبيبة غائبة، ويتساءل شاعرنا: أين أنت يا وكيل الوزارة: أأنت مازلت فى مصر، أم انتقلت إلى بلاد الشام؟! ويستصرخه باسم «الأمن» الذى يحافظ عليه فى طول البلاد وعرضها، أن يدرك «أمن» جيب صاحبنا الذى أخذ فى الاضطراب:
تمضى الليالى وهى فى الطُّـ.. ولِ شبيهاتُ الحِقَبْ
فقصِّر الليلَ على.. مُضْناكَ وانظر فى (الطَّلَبْ)
قالوا على الإمضاء قُلـ.. ـتُ عجبٌ أيُّ عجبْ
هل (الوكيلُ) هاهُنا.. أم الوكيلُ فى (حَلَبْ)؟!!

الكادر .. ذلك الحبيب الغادر
وفى مرحلة مبكرة من حياة محمود غنيم الوظيفية، نشرت له قصيدة فى صحيفة «الأهرام» عام 1939 بعنوان (الكادر) سخر فيها من تقتير الحكومة على موظفيها البائسين، حتى إن الآباء الموظفين يوشكون على وأد أبنائهم خشية الإملاق، كما كان أهل الجاهلية يفعلون:
أيها القوم، حسبكمْ إرهاقاً.. كم علينا تضيِّقون الخناقَا
هل تريدون أمة يئد الوا.. لد فيها أولاده إملاقاً
ويحكم! لا منابع النيل غاصت.. لا،ولا سطحُ مصرَ بالناس ضاقا
ضغطوا «الكادر» الجديد إلى أن.. لبستهُ أعناقنا أطواقا
اختزال يجئ إثر اختزال.. من قلوب لا تعرف الإشفاقا
ثم تبلغ السخرية غايتها حين يتوجه الشاعر بالخطاب إلى زميله الموظف ساخراً طالباً منه أن ييأس من اللجوء إلى المخلوقين، ويتجه إلى الله وحده سبحانه فهو الخالق الرازق، ويطلب «غنيم» من الموظف ألا يصنع لثوبه جيوباً، فما حاجته للجيوب وهو لا يملك ما يضعه فيها؟، بل إنه ينصحه بأن يهجر الأسواق إذ لا ناقة له فيها ولا جمل، وأن يتخفف حتى من الثياب إن استطاع:
أيها البائس المعذب رحما.. ك! دع الخلق، واسأل الخلاقا
لا تخِطْ للثياب-ويحك-جيبا.. والزم البيت، واهجر الأسواقا
وإذا جعت، فامضغ الصبر! ما أحـ.. ـلاه فى ذلك الزمان مذاقا!
ما لكم والثياب إن أباكم.. آدمًا كان يلبس الأوراقا
عَلِمَ الله، لا أضن ولو أنّ.. بلادى كَلَّفَنَنى الأحداقا
غير أنى على بلاديَ أخشى.. أن أرى الجوع دهْورَ الأخلاقَا
على إننى أرى فى البيت قبل الأخير خللاً لغوياً فى قوله «كلفنني» بنون النسوة، وهكذا ورد البيت فى ديوانه. ويبدو أنه اضطر إلى ذلك، ولو قال (كلفتني) بتاء التأنيث الساكنة لاختل الوزن.

رحماك أيتها العلاوة
ويتخيل غنيم العلاوة غادة حسناء لها ما للغوانى من خصال الهجر والخصام، والدلال،وإخلاف الوعود فهو يتذلل وهى تتدلل، وتصل من لا يحتاج لوصلها من كبار المستشارين فى الوزارة وتعرض عمن يهيمون بها من صغار الموظفين. وقد نشر «غنيم» هذه القصيدة فى الأهرام: فى 24 من أبريل عام 1935م:
قد حل مايو، فاسْمَحِى بوصالي..
مُنِّى علىَّ، ولو بطيف خيال
يا أختَ «عرقوب»، وعدت، فأنجزي..
يكفى جفاؤك من سنين طوال
فى أى نجم نازح حجبوك أم..
فى أيِّ سجن محكم الإقفال؟
هل أنت إلا كالغواني، طالما..
سقن الدلال على رقيق الحال؟
هيفاء، يَحظى المستشار بوصلها..
وتصدَّ كل الصد عن أمثالي
لا هُمَّ، لا أشكو لغيرك علتي..
أنقصْتَ من رزقي، وزدت عيالي!
يا رُبَّ طفل جاءني، أطعمتُه..
ما فى فمي، وكسوتُه سربالي
مالى أرى أموال مصر كأنها..
بعضُ الحبوبُ تُكال بالمكيال؟
حتى إذا طلب الصغير حقوقه..
شكت الخزانة قلة الأموال؟
فازَ السعيدُ بعمه، وبخاله..
وفقدتُ عمى فى الحياة وخالي!

حتى الوظيفة الكبيرة لا قيمة لها!!:

وسخر «محمود غنيم» من الوظائف الكبيرة حين تكون كألقاب أمراء الأندلس الخاوية الخالية من المضمون. فهو حين رقى إلى وظيفة «مفتش» لم يجد لهذه الترقية أثراً مادياً فى حياته، ورأى عام 1943م، بمناسبة توليه هذا المنصب أنه زيفٌ لا طائل من ورائه مادام خالياً من الرقى المادي، فقال:
وما سرَّنى التفتيشُ حين وَلِيتُه.. ولا أنا -إن ولَّى- عليه بآسف
لقد خِلتُه يغنى عيالى من الطوى..
فكان كمضروبٍ من النقد زائف
وَزارةُ مهضُومين، ليس بقابضٍ..
فتًى يرتقى فيها، وليس بصارف
إذا قيل: منسيُّون، فتشتُ عنهمو..
فلم ألقهم إلا رجال المعارف

وتخيل حوار دار بينه فى العام نفسه-وبين بعض الشحاذين الذين يسألون الناس فى الطرقات صدقة وإحساناً، وكان هذا الموقف الطريف يروى عن الشاعر حافظ إبراهيم حين قابله شحاذ وطلب منه «حسنة لله»، فقال له حافظ: «عمرك أطول من عمري» وهى تعنى فى العامية المصرية أنك سبقتنى فى التلفظ بما كنت أود أن أقوله لك!! ، لكن شاعرنا «محمود غنيم» تخيل فى هذا الحوار الذى دار بينه وبين أولئك الشحاذين معنى لم يرد فى عبارة «حافظ إبراهيم» الفكاهية، وإن لم يبتعد عن دلالتها كثيراً:
قال لى اليوم يائسون عفاةُ..
أعطنا. قلت: إن أصبتم؛ فهاتوا
ثقلَتْ وطأةُ الغلاء؛ فحلَّت..
لكبار الموظفين الزكاةُ
لا تروموا الزكاة منا احتسابًا..
 نحن-لا أنتمُ- الجياعُ العراةُ


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة