عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس


عبد الهادي عباس يكتب: «شعار» الكتيبة 63.. هل كان المنسي شاعرًا؟

عبدالهادي عباس

الإثنين، 20 يونيو 2022 - 12:45 م

لا تتوقف مخايل البطولة الإنسانية عند الشجاعة القتالية فقط، بل تنداح في باقي وجوه حياة البطل ومساربها، ومن ثم تختلف رؤيته للبيئة المُحيطة به عن باقي الناس، إذ يتأثر بالعلاقات الإنسانية، ويُقدِّس الواجب، ويُظهر الرحمة في الوقت نفسه الذي لا يقبل التخاذل عن أداء العمل؛ وهذه كلها أوصاف شاعرية.. فهل كان الشهيد أحمد المنسي مُحبا للشعر، أو مارس كتابته؟    

في الذكرى التاسعة لثورة 30 يونيو المباركة علينا أن نتذكر شهداءنا ونروي قصصهم لأبنائنا ونجعل منهم أبطالا، بدلا من لاعبي الكرة "الكسر" وأنصاف الممثلين والمغنين، وأمثال هذه الطوائف التي تأخذ أكبر من حجمها وتقتات أضخم من أرزاقها؛ إننا نحتاج إلى إعادة تدوير لقيم المجتمع وعاداته، وتشكي البطولة به؛ علينا أن نستغل الدراما وأدوات السوشيال ميديا وكُتب وزارة التربية والتعليم في دعم وتأبيد وجوه شهدائنا وأسمائهم في ذاكرة الوطن والمواطنين. ومن محاسن الصدف القليلة التي قابلتها في حياتي تعرفي إلى مجند عمل مع الشهيد المنسي مباشرة، بل وتلا عليه شعرا في الكتيبة.. يروي لي المجند: محمد يحيى زكريا، قصته مع الشهيد قائلا: في يوم من أيام الصاعقة طُلب مني تأليف قصيدة وأنا أخدم مع المنسي تتحدث عن مصر وقوة رجال الصاعقة البواسل والعساكر الشجعان الذين يخدمون في سيناء كي أقولها أمام وزير الدفاع وقتها صدقي صبحي؛ وقد بدأ الشهيد المنسي يهيئنا لهذا أنا وزميلي (حسن) كي نلقي القصيدة أولا أمام قائد وحدات الصاعقة، وفي النهاية تم اختيار قصيدة صديقي وألقاها أمام الوزير، وأعطاه المنسي إجازة مكافأة له.

ويتابع المجند وكأنه يمتاح من بئر عميقة وتكاد عيناه تدمعان: ولكن وجدت شيئا غريبا بعد أن خرجنا من القاعة التي كان فيها الوزير، وجدت المنسي يضع يده على كتفي بكل تواضع وهو مقدم وأنا عسكري ويقول لي: لا تحزن لأنك لم تقل القصيدة أمام الوزير، وقال لي: أنا أيضًا أقول شعرًا باللغة العربية، حاول تأتي عندي في المكتب، أنت تقول شعرك وأنا أيضًا أقول، وقال لي هيا بسرعة نركب أتوبيسنا كي نرجع للكتيبة، وكأنه أراد أن يطيب خاطري لأنني كنت حزينًا، وبعد ذلك طلب مني شعارا للكتيبة ٦٣ صاعقة وبدأ يرفع من شأني ومعنوياتي أكثر فأكثر، وبالفعل ألفته وكانت بدايته: "بسم الله والله أكبر، بسم الله هَنْهِد جبال"، وبدأنا نجري بكل حماسة بهذا الشعار، ولم يكتفِ المنسي بأن يرفع شأني في كتيبتي، بل أمر أن يوضع شعاري في مدخل الكتيبة ٦٣ صاعقة.

ويقول المجند محمد يحيى زكريا: في يوم من الأيام أخذنا المنسي كي يدربنا تدريبات عبارة عن جري وعقلة وضغط، لاحظت في هذا الرجل أنه لا يحب أن يرى ضعيفا في وسطنا بدليل أنه وجد جنديا يجري بطريقة لا تتسم بالقوة وغير قادر على القيام بالتمارين فهدده بالسجن إن لم يجتهد في تمارينه، ولكنه طبعًا لم يسجنه، ولكنه أراد أن يضعه تحت ضغط كي يخلق فيه المقاتل الشرس، وفي الوقت نفسه كان يمدح العساكر الذين يجيدون في ممارسة التمارين، فكان من مدحه لي ودعابته معي أنه قال لي أثناء التمرين: "عسكري محمد يحيى يلعب الباليه" دليل على مرونتي بفضل الله أثناء ممارسة التدريبات، وكان لا يكتفي بتوجيه التدريبات، بل كان يمارسها معنا، فعندما تعلقت بالعقلة وجدته يتعلق بالعقلة التي أمامي بكل نشاط تشجيعًا لنا؛ وفي يوم من أيام الصاعقة وضع المنسي شرطا للإجازة وهو أن يتعلق العسكري على العقلة ويحقق العشرين عدة، كل هذا من أجل أن يصل بنا إلى مرحلة تتسم بالقوة.

ويواصل: في يوم من أيام حياتي في الصاعقة مع المنسي، ذهبنا كي نتدرب على الرماية لأننا سندخل مسابقة مع كتيبة أخرى، وهذا اليوم كان عصيبا، حيث بقينا في الصحراء وقتا طويلا، وفجأة أمر بتوزيع سندوتشات على جميع العساكر، الذين كانوا في غاية الفرحة ويبتسمون.

ويقول المجند بشغف لا يشبع: كان يحب العساكر بشدة، والعساكر يحبونه كذلك، وبعد تخرج دفعة١١٠ من الكلية الحربية، وكنا في انتظار بعضهم للخدمة في كتيبتنا ٦٣ قبل أن يتوزعوا، اجتمع بنا وأمرنا بطاعة الضباط الجدد لأنه يكره عقابنا، كما كان يكره الواسطة، وعندما يأتي إليه تليفون للتوصية على جندي كان يسأل عنه ويذمه وسط الضباط والعساكر، وفي المقابل كان حريصًا على مكافأة الممتازين في التمارين الرياضية.

ويتابع المجند محمد يحيى: إنني لن أنسى موقف الشهيد حين كلفني بالتعليم في فصول محو الأمية مع بعض العساكر المتخصصين في تعليم اللغة العربية، وكان يقول لي: "حاول تعلمهم، ولو أردت كتبًا سأشتري لك كي تعلمهم".. وكذلك أمر بتحديث صالة الحديد بالكتيبة، وقال لنا: "لا بد من تدريب العساكر بالصالة، ولو أردتم حديدًا جديدًا سأشتري لكم"، وبالفعل طلبنا منه فاشترى وكانت النتيجة أننا استفدنا من هذه الصالة بعد أن كانت مهجورة، فقد كان يحاول بأي وسيلة النهوض بمن حوله وتقويتهم كي يكونوا على استعداد لأي مخاطر.

كانت هذه شهادة حية على بطولة "المنسي" ذاك الشهيد الحي الذي ما زلنا نذكره ورفاقه ونترحم عليهم، ونشتاق إلى كل معلومة جديدة عن بطولاتهم من أجل الوطن.. سلام على أبطالنا في عليين.. وسلام على وطن مكين إلى يوم الدين.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة