الشيخ محمد متولي الشعراوي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


خواطر الإمام الشعراوي| ذلة العبودية

الأخبار

الخميس، 23 يونيو 2022 - 06:11 م

يستكمل الإمام الشعراوى خواطره حول الآية 197 من سورة البقرة بقوله :الحق سبحانه وتعالى يقول: «وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى»، فبعد أن نهانا الحق بقوله: «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الحج» وتلك أمور سلبية وهى أفعال على الإنسان أن يمتنع عنها، وهنا يتبع الحق الأفعال السلبية بالأمر بالأفعال الإيجابية، أفعال الخير التى يعلمها الله.

إن الله يريد أن نجمع فى العبادة بين أمرين، سلب وإيجاب، سلب ما قال عن الرفث والفسوق والجدال، ويريد أن نوجب ونوجد فعلا ،«وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله».

اقرأ أيضًا

 خواطر الإمام الشعراوي| اتباع المنهج

وما هو ذلك الخير؟ إنها الأمور المقابلة للمسائل المنهى عنها، فإذا كان الإنسان لا يرفث فى الحج فمطلوب منه أن يعف فى كلامه وفى نظرته وفى أسلوبه وفى علاقته بامرأته الحلال له، فيمتنع عنها ما دام محرماً ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق، من بر وخير.

وفى الجدال نجد أن مقابله هو الكلام بالرفق والأدب واللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف على الناس، هذا هو المقصود بقوله: «وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله»، وكلمة من قوله «مِنْ خَيْرٍ» للابتداء، كأن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيراً وهو سبحانه يرى أقل شيء من الخير؛ ولذلك قال: «يَعْلَمْهُ الله». فكأنه خير لا يراه أحد؛ فالخير الظاهر يراه كل الناس؛ والتعبير «يَعْلَمْهُ الله» أى الخير مهما صغر، ومهما قل فإن الله يعلمه، وكثير من الخيرات تكون هواجس بالنية، ويجازى الله على الخير بالجزاء الذى يناسبه.

وقول الحق: «وَتَزَوَّدُواْ» والزاد: هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره، وكان هذا أمراً مألوفا عند العرب قديماً؛ لأن المكان الذى يذهبون إليه ليس فيه طعام ،وكل هذه الظروف تغيرت الآن، وكذلك تغيرت عادات الناس التى كانت تذهب إلى هناك ،كانت الناس قديماً تذهب إلى الحج ومعها أكفانها، ومعها ملح طعامها، ومعها الخيط والإبرة، فلم يكن فى مكة والمدينة ما يكفى الناس، وأصبح الناس يذهبون الآن إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة، وأصبحت لا تجد غرابة فى أن فلاناً جاء من الحج ومعه كذا وكذا، كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذاناً بأنه أخبر قديماً يوم كان الوادى غير ذى زرع فقال: « يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ..» «القصص: 57».

وانظر إلى دقة الأداء القرآنى فى قوله: «يجبى» ومعناها يؤخذ بالقوة وليس باختيار من يذهب به، فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها، وهو رزق من عند الله، وليس من يد الناس.
وهذا تصديق لقوله تعالى: « وارزقهم مِّنَ الثمرات...»» «إبراهيم: 37».

وقوله الحق: «وَتَزَوَّدُواْ» مأخوذة كما عرفنا من الزيادة، والزاد هو طعام المسافر، ومن يدخر شيئاً لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته، ويأخذه حتى يكفيه مؤونة السؤال أو الاستشراف إلى السؤال؛ لأن الحج ذلة عبودية، وذلة العبودية يريدها الله له وحده ،فمن لا يكون عنده مؤونة سفره فربما يذل لشخص آخر، ويطلب منه أن يعطيه طعاماً، والله لا يريد من الحاج أن يذل لأحد، ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته حتى يكفى نفسه، وتظل ذلته سليمة لربه، فلا يسأل غير ربه، ولا يستشرف للسؤال من الخلق، ومَنْ يسأل أو يستشرف فقد أخذ شيئاً من ذلته المفروض أن تكون خالصة فى هذه المرحلة لله وهو يوجهها للناس، والله يريدها له خالصة.

وإن لم يعط الناس السائل والمستشرف للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته، وتتحول رحلته من قصد البر إلى الشر، وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بلا زاد ويقولون: (نحن متوكلون، أنذهب إلى بيت الله ولا يطعمنا؟)، ثم تضطرهم الظروف لأن يسرقوا، وهذا سبب وجود النهب والسرقة فى الحج. إن إلحاح الجوع قد يدفع الإنسان لأن ينهب ويسرق ليسد حاجته.

ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال: «وَتَزَوَّدُواْ» إنه أمر من الله بالتزود فى هذه الرحلة التى ينقطع فيها الإنسان عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن معارفه، ويقول سبحانه: «وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى» ونعرف أن الزاد هو ما تَقى به نفسك من الجوع والعطش، وإذا كان التزود فيه خير لاستبقاء حياتك الفانية، فما بالك بالحياة الأبدية التى لا فناء فيها، ألا تحتاج إلى زاد أكبر؟ فكأن الزاد فى الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة