نور أمام منزله
نور أمام منزله


أصوات من الجنوب| سـيد نـور.. عـاشـق التراث يعــيد الـروح للبناء بالطين

آخر ساعة

الأربعاء، 13 يوليه 2022 - 09:36 م

كتب: حسن حافظ

الحياة مغامرة، يخوضها البعض بحثا عن الجديد، عن الشغف الذى يسكننا ولا نعرف كيف نعبّر عنه، البعض ينجح فى مغامرته فيحقق حلمه على أرض الواقع والبعض يحلق فى دنيا الخيال ولا يعود أبدًا، لكن الصيدلى محمد سيد نور ومن خلال عشقه للتراث، استطاع أن يحقق شغفه وحلمه معا على أرض الواقع فى صورة بيت مبنى بالطين ويتميز بمفردات من التراث المحلى، لينتصب منزله فى قرية الشيخ على بمركز إدفو التابع لمحافظة أسوان، وهناك استطاع أن يعيد الحياة للبناء بالطين، ويقدم تجربة جمالية بدأت تشع أنوارها فى محيطها.

سيد نور روى لـ«آخرساعة» قصة شغفه الذى ارتبط به منذ سنوات الصبا حتى تحقق إلى واقع يعيش فى تفاصيله، إذ بدأ الحلم وهو دون العشرين من عمره، عندما شاهد منزل المعمارى الإنجليزى سومرز كلارك، الذى عاش بالقرب من قرية الشيخ على، وبنى منزله على الطراز المحلى مستفيدا من الخامات الطبيعية ممثلة فى الطين بشكل أساسى، فجاء المنزل كتجربة رائدة فى البناء بالطين والاستعارة من بيوت المصريين فى بدايات القرن العشرين التى تميزت بقبابها، ولم يغادر كلارك مصر بل فضل أن يدفن بها وبالقرب من منزله الذى مثل حلمه وتجربته، وهى التجربة التى قدمها بعد ذلك بشكل أوسع المعمارى حسن فتحى فى تجربته الشهيرة بقرية القرنة التابعة لمحافظة الأقصر.

لحظة البداية
شاهد نور فى أحد البرامج وهو مراهق حلقة تلفزيونية عن المعمارى حسن فتحى وتصاميمه الشهيرة لمنازل بقباب مبنية بالطين، فلفت نظره إلى أهمية البناء بالطين ومواكبته البيئة، وبدأ البحث عن معلومات أولية عن البناء بالطين، فاكتشف نور أن جده عمل مع المعمارى سومرز كلارك فى بناء بيته الطينى، الذى حكى عن علاقته مع الرجل البريطانى الذى قرر تعلم اللغة العربية وارتدى الجلابية وعاش فى الصعيد حتى وفاته، ومن هنا بدأت الفكرة تختمر فى ذهن محمد نور لبناء منزل من الطين يستعيد فيه تجربتى كلارك وفتحى بشكل عملى يناسب إيقاع العصر، خصوصا بعد أن زار منزل كلارك وانبهر بما رآه من تفاصيل البناء بالطين.

إقرأ أيضًا

«كرشيف» سيوة.. محاولات للاستغناء عن الخرسانة والأمطار تقف عائقا| فيديو 

قرر محمد سيد نور أن يطارد حلمه بدخول كلية الهندسة من أجل دراسة فنون البناء وإتقان أسرار المعمار المصرى، لكنه اصطدم بالأسرة التى أجبرته على دراسة الصيدلة، لكن الحلم لم يُقتل، فظل يراود صاحبه، الذى تخرج فى كلية الصيدلة لكنه عاش الحياة بروح الفنان متمسكًا بحلم البيت الطينى المبنى على الطراز المصرى الأسوانى الذى سكن بين الضلوع، فبدأ فى تحويل شغفه إلى حقيقة عبر القراءة عن البناء بالطين، ولم يكتف بما هو متاح بالعربية بل عمل على جمع ما كتب عن الموضوع فى اللغات الأجنبية، وبدأ يطلع على تجارب البناء بالطين خصوصا فى إيران وعدة دول أخرى فى أفريقيا، وهى فترة استغرقت نحو سبع سنوات من حياة سيد نور، ليبدأ بعدها فى تنفيذ مشروعه الحلم.

كانت العقبة الأساسية أمام أى مشروع للبناء بالطين هى العثور على المهندسين والعمال القادرين على تنفيذ هذه الفكرة إلى واقع، هنا واجهت نور عقبة كادت أن تجهض حلمه، فمعظم المهندسين الذين قابلهم رفضوا الفكرة لأنهم لم يدرسوها، ووجه له البعض منهم النصح بضرورة الاعتماد على الخرسانة المسلحة فى البناء، «قال لى البعض إنه يمكن استخدام مواد عازلة، لأن مبدأ البناء بالطين تكنيك قديم لا لزوم له، لم يفهم أن الموضوع عندى إحياء التراث القديم فى المقام الأول».

هنا قرر البحث عن مخرج، جاء الحل الأول فى الاستعانة بأحد تلاميذ مدرسة حسن فتحى المعمارية، وهى عملية مكلفة ماديا، خصوصا مع احتساب عملية الانتقال من وإلى إدفو، ليلجأ الصيدلى الحالم إلى الحل الأخير، الذى راهن عليه لإنقاذ حلمه من أن يولد ميتًا، اختار أن يعتمد على العمال المحليين من أبناء القرى المجاورة ممن عملوا فى البناء بالطين عندما كانت كل بيوت القرى مبنية من هذه الخامة قبل عقود.

وبدأ فى البحث عن فنون البناء القديم عند المصريين، وهو ما وجده فى أعمال المعلم حسين أبو عزام، الذى بنى منازل القرية القديمة منذ ستينيات القرن الماضى، وهنا كانت المفاجأة الكبرى لسيد نور، إذ وجد أن حسين أبو عزام الذى ورث مهنته من أجداد الأجداد، يستخدم نفس التقنيات التى يستخدمها الإيرانيون وغيرهم بعد العديد والعديد من الأبحاث بعد الزلزال الشهير الذى ضرب غرب إيران فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، إذ بنى أبو عزام البيوت الطينية بوضع زوايا خشبية فى الأركان والحوائط يوضع بها عوارض خشبية لتوزيع الأحمال، واستخدام ملاقف الهواء، ووضع طبقة عازلة من الجرانيت دون استخدام أى مونة من أجل منع المياه الجوفية من التأثير فى أساسات البيت.

130 ألف طوبة لتشييد بيت ينتصر لتراث مصرى عريق

اكتملت المعلومات الأساسية أمام محمد سيد نور الذى بدأ الاستعانة بعدد من المعلمين فى عملية البناء لمنزل وضع تصميمه بنفسه، بعدما جمع أهم الحرفيين فى مجالات وضع الأساس من الجرانيت والبازلت، وهى المهمة التى اضطلع بها الحاج حماد، بينما بنى قباب المنزل المعلم رجب الدكاوى، والمعلم رجب الشلالى وهو سليل عائلة متضلعة فى بناء القباب، وتم صناعة الطوب خلال فترة زمنية استغرقت سنة كاملة، وذلك لإعداد 130 ألف طوبة، وفقا لتقاليد البناء القديمة المتوارثة من مصر الفرعونية، إذ يتم تجهيز الخلطة من الطين الصافى بعد استخراجه من طبقات الأرض العميقة، ومزجه مع التبن والماء لمدة 15 يوما، ثم يستخرج بعدها ويقطع بقوالب خشبية، ويترك فى الشمس عدة أيام حتى يجف ويكون جاهزا للاستخدام.

أزمة «المحارة»
ولفت إلى أن الأزمة التى واجهت عمليات البناء تمثلت فى أزمة «المحارة»، إذ إنه جرب الاستعانة بعدد من معلمى البناء بالطين، وكان يختبرهم بطلب محارة حوائط لا تتجاوز المترين، من أجل التأكد من قدرتها على التحمل، لكن الحوائط سرعان ما كانت تتشقق، ولم يجد غايته إلا عند المعلم جابر الذى ورث خبرة المصرى القديم فى المحارة بالطين بطريقة مخصوصة وفريدة تستخدم المواد الطبيعية من الطين والتبن فى عملية المحارة نجحت فى الصمود أمام عوامل الطقس، وتم استخدام تقنية رش أسمنت على الحوائط ثم استخدام المحارة الداخلية من أجل تثبيتها وضمان عدم انفصالها عن الحوائط الطينية، بينما جاءت القباب والأقواس داخل المنزل مما مكن من توزيع الهواء وحافظ على عزل الحرارة والصوت داخل المنزل.

يقدم تجربة عصرية لبيوت موفرة للكهرباء وصديقة للبيئة

ويعبّر سيد نور عن سعادته البالغة ببناء المنزل، إذ يقول: «بعد عامين ونصف العام من أعمال البناء، ظهر البيت الذى حلمت به طوال عمرى إلى النور أخيرا، وخلال خمس سنوات أثبت البيت متانته وتحمله لتقلبات الطقس دون أى مشاكل، بل هو منزل صديق للبيئة ويبعد عن استخدام الطوب الأحمر الملوث للبيئة، ويوفر استهلاك الكهرباء، ويقلل من درجة الحرارة داخل المنزل خصوصا فى شهور الصيف، إذ تختلف درجة الحرارة بين داخل المنزل وخارجه بنحو 12 درجة حرارة، لأن الحوائط نفسها غير ناقلة للحرارة ولا تبث حرارة كما هو حال الحوائط الأسمنتية، فضلا عن أن نسبة الرطوبة ثابتة فى المنزل بفضل امتصاص الحوائط الطينية للزائد من الرطوبة».

إقرأ أيضًَا

السعودية تطلق أول برنامج تلمذة «للسدو والبناء التقليدي بالطين»

من يتبنى التجربة؟
وأشار إلى أن أسرته المكونة من زوجته وأولاده «يعجبهم البيت ويتفاعلون معه بشكل جيد جدا، لأن المكان متسع، وهو مرهق فقط فى مسألة النظافة لكبر مساحته فهو مبنى على 245 مترا لكل دور، بإجمالى 490 مترا، أما الأبناء فهم يفتخرون به خصوصا أن الكثير من أصدقائهم يطلبون زيارته والتقاط الصور فيه»، وأشار إلى أن الاهتمام بالبيت تجاوز العائلة إلى محيط القرية، فرغم صعوبة بناء بيت طينى بسبب تراجع عدد العمالة القادرة على إنجاز هذا المشروع، إلا أن الجمال يعدى، فالعديد من أبناء القرية بدأوا فى بناء قباب بعد أن وجدوا فيها القدرة على تلطيف درجة الحرارة داخل المنزل.

وتمنى نور أن تتبنى الدولة تجربته، وأن يتم البدء فى تعليم العمال أسس البناء بالطين، وأن تتبنى وزارة السياحة مشروع البناء بالطين لأنه سيعطى للفنادق والأماكن السياحية جمالًا استثنائيًا، وهو ما جربه على أرض الواقع إذ تحول منزله إلى متحف يضم الكثير من التحف التراثية التى تحكى تفاصيل الحياة فى الصعيد، ففيه أكثر من 200 قطعة جمعها ابتداء من مقتنيات جده وأسرته، وما وجده فى بيت العائلة القديم من أدوات وقطع، ثم جمع الأشياء القديمة من أبناء العائلة وأهالى القرية التى قدموها له عن طريق الإهداء، لذا تجد فى المنزل قطع الفخار مختلفة الأحجار، ومفاتيح البيوت القديمة، والعملات القديمة، وكلها مقتنيات تضمن لمن يزور المنزل بألوانه المبهجة راحة نفسية لا يجدها فى بيوت حديثة بلا روح.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة