فى ذكرى صاحب «عودة الروح»|«الحكيــم» ليـــس بخيـــلًا!
فى ذكرى صاحب «عودة الروح»|«الحكيــم» ليـــس بخيـــلًا!


فى ذكرى صاحب «عودة الروح»|«الحكيــم» ليـــس بخيـــلًا!

الأخبار

الأحد، 24 يوليه 2022 - 07:04 م

الناقدة المتميزة والقاصة المبدعة د.أمانى فؤاد أهدت إلى «الأخبار» هذا المقال الذى يغوص فى عالم رائد المسرح العربى أديبنا الفذ الراحل توفيق الحكيم الذى تحل ذكرى وفاته غدًا.
وتتساءل ناقدتنا البارزة كيف لبخيل أن يهب لنا كل هذا الجمال؟!.

فى عام 1986 يتحدَّث أبى بشغَف عن مسرحية إيزيس)، التى ستُقدَّم على المسرح القومى بالقاهرة، يعِدُنا بأنه سيصحَبنا لمشاهدتها، فتسرَح خيالاتى محلِّقة؛ سأرى (توفيق الحكيم)، وألمِس عصاه الشهيرةَ و«البيريه»، حماره وأهل كهفه، ربما سيكون بصُحبته سلطانه الحائر أو شهرزاد، رباطه المقدَّس، وفتاة التذاكر الفرنسية الفاتنة.

وشوارع باريس ومقاهيها ومتاحفها، وشمس الفكر، تخيَّلت أننى سأراه رؤية العين، قامة سامقة فى صحبة عوالمه الثرية، التى صنعها بمؤلفاته، هى عودة الروح التى انتعشَت بأمل مقابلة هذا الكاتب العظيم، الذى صحبتُ مؤلَّفاتِه طويلًا؛فتعلَّمت فلسفة السؤال، والغوص فى المعانى والقضايا،لم يكن الحكيم فى كل كتاباته باحثًا عن المألوف، أو مجرَّد الوجود، فحين شغفَ بالمسرح قبْل سَفره.

وأثناء فترة بِعثته فى فرنسا، عاد إلى مصر 1928؛ ليكتب المسرح النثرى العربى ناضجًا فى نَصِّه «أهل الكهف»، الذى عالَج فيها فكرة الزمن بتغيرات مراحله، وتأثيره على الإنسان، ثم تلاها بأكثر من ثلاثين مسرحية نثرية.

وهو ما جعَله رائدًا يتمتع بالجرأة على ترسيخ المختلف على الساحة الأدبية فى ثلاثينيات القرن العشرين، فلقد صدرت «أهل الكهف» ورواية عودة الروح» عام 1933، وبالرغم من الإنتاج المسرحى الغزير للحكيم، إلا أن عددًا قليلًا من هذه المسرحيات يُمكن تمثيلها على خشبة المسرح ليشاهدها الجمهور.

وبقيت معظم مسرحياته من النوع الذى يُطلَق عليه (المسرح الذِّهني)؛أى نصوص مسرحية كُتبت لتُقرأ، بنية حوارية تستند على الأفكار التى تتجادل، عالَم من الدلائل والرموز التى يمكن إسقاطها على الواقع فى سهولة ويُسر؛ لتُسهم فى تقديم رؤية نقدية للحياة والمجتمع، تتسم بقدْر كبير من العمق والوعي، قال عن مسرحه الذِّهني: (إنى اليوم أُقيم مسرحى داخِل الذِّهن، وأجعل الممثلين أفكارًا تتحرك فى المطلَق من المعانى مرتدية أثواب الرموز.. لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بينى وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرة تنقُل مثل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة).


كان لتوفيق الحكيم فى كتاباته بتنوُّعها قُدرة على المزْج الفريد بين الواقعى والرمزي، قُدرة على مناقشة الأحداث اليومية التى تشغَل الفرد، والارتفاع بها فى حركة من تصاعُد الأسئلة وتوالُدها؛ إلى طرْح ومناقشة القضايا الوجودية الكُبرى، التى تشغل البَشر.


ولأسلوب الحكيم قُدرة على جذْب قارئه، ودمْجه فى القضية التى يُناقش أبعادها بلا تعقيد أو غموض؛ بل بسلاسة فى عرْض الدراما (الصراع) وزواياها المختلفة، ساعَده تمكُّنه من توظيف الخيال والأساطير والرمز فى طيات أحداث الواقع العادية، يقول الحكيم واصفًا الخيال: «الخيال هو ليل الحياة الجميل، هو حصننا وملاذنا من قسوة النهار الطويل! إن عالَم الواقع لا يكفى وحدَه لحياة البَشر، إنه أضيق من أن يتَّسع لحياة إنسانية كاملة».


اعتمد الحكيم فى بنية نصوصه - سواء الروائية أو المسرحية - على الرمز وقصص التاريخ الموروثة وشخصياته، على الأساطير، فلقد درَس المسرح اليونانى بحبْكته وأساطيره؛ حين عرَف أنه أصْل المسرح الأوروبى الذى شغف به، وظَّف الأساطير برؤية خاصة، وبحَث عن الأساطير الفرعونية التى تُميِّز هُوَيتنا، قال فى توظيفه لأسطورة إيزيس: «ليس المقصود هنا تصوير الحياة الفرعونية، أو بسْط العقائد المصرية القديمة؛ بل المقصود.. إبراز شخصيات الأسطورة إبرازًا جديدًا إنسانيًّا.

وتخريج معناها على المفهوم الحى فى كل عصر وفى العصور الحديثة على الأخص،» فى «إيزيس»- التى كُتبت فى الخمسينيات- أراد الحكيم أن يناقِش،هل على المواطن العادى أن يشترك ويتفاعَل مع أحداث بلده، أم يقتصر دوره على المراقبة من بعيد، فهو الذى قال:»إنك تفترض أن الناس جميعًا قابِلون أن يكونوا أحرارًا.

وننسى أن أغلب الناس لا يستطيعون، ولا يريدون أن يكون لهم رأيٌ.. إنما يستسهلون ارتداء الآراء التى تُصنع لهم صُنعًا.» وتأثَّر الحكيم أيضا بكتاب الموتى الفرعوني، والقرآن الكريم، والفلكلور الشعبى المصري، والعربي، أراد أن يُثرى عوالِمَ نصوصه المسرحية بروافدَ مختلفةٍ من طبقاتنا الثقافية المتنوعة، فى تناصَّات مختلفة المصادر والحضارات.

التى انصهرت فى كيان الشخصية المصرية الاعتباري، استهدف أفكارًا لتصل قرَّاءه؛ولذا يتبدَّى حرصه فى نصوصه كلها على المعنى الواضح، وعدم المبالغة أو الإغراق فى الغموض؛ فلديه رسالة تتطلع لإيقاظ الوعي، فى فريدته الرائدة (عودة الروح)، التى أثَّرت فى كل أجيال الكتاب من بعده، يناقش الحكيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين.

ويدمج تاريخ حياته فى الطفولة والصِّبا بتاريخ مصر، فيجمع بين الواقعية والرمز والأسطورة فى شخصية «سنية»، التى تتقاطع مع شخصية إيزيس.. وللحكيم قُدرة فائقة على ابتكار الشخصيات.

وتجسيد أبعاد خاصة بها ببراعة فائقة، رسم أبعادها بحيوية للدرجة التى تُشعرك بأنها تتحرك وتتحدث بجوارك، شخصيات ثرية بأفكارها وصراعها مع الوجود من حولها، بالإضافة إلى قُدرته على تنوُّع مستويات الحوار؛ بما يناسب كل شخصية وثقافتها وطبيعتها، ويتَّفق مع مستواها الفكرى والاجتماعي.


كما استطاع فى أعماله المسرحية تفادى «المونولوج» المحلِّي، الذى كان الطابع الغالب على الدراما المصرية قبْله، وفى الوقت ذاته لم يبتعد عن تجسيد البيئة المصرية بوضوح؛ من خلال قُدرته على تصوير مشاكل المجتمع المصرى فى ذلك الوقت.

وهو ما يشهد بتمكُّنه ووعْيه، وبما طوَّعه من حصيلة لغوية ثرية؛ تُمكِّنه من نقْل نماذج شخوصه المتباينة، التى جسَّدت مراحل تاريخية مختلفة، كما يمتاز أسلوب توفيق الحكيم بالدِّقة والتكثيف البالغ، وحشْد المعانى والدلالات الثرية.

وإبراز فروقها الطفيفة، والقدرة الفائقة على التصوير؛ ففى جُمل قليلة يحشد من المعانى ما قد لا يبلغه غيره فى صفحات طوال، كما يعتنى عناية فائقة بدِقة تصوير المشاهد، موظِّفًا لمتطلبات المسرح الذى يُشاهَد بالعين، أى بحشْد أدق التفاصيل.

والحرص على تجسيد حيوية الحركة، أما فيما يتعلَّق بوصْفه للجوانب الشعورية الداخلية، والانفعالات النفسية؛ فلقد برَع الحكيم فى الغوص فى العمق البَشري، وكهوفه وتناقضاته وضَعفه وقوَّته، وهو ما يُنبئ بوعى وثقافة نفسية متبحرة، وتأمُّل ناصع للوجود البَشري.


يقول نُقاد الحكيم إن كتاباتِه مَرَّت بثلاث مراحل: الأولى: جاءت عِباراتُه قليلة، فضفاضة إلى حدٍّ كبير، ومن ثم فقد لجأ فيها إلى اقتباس كثير من التعبيرات السائرة لأداء المعانى التى تجُول فى ذِهنه، وفى هذه المرحلة كتَب مسرحيات: «أهل الكهف»، وقصة «عصفور من الشرق»، و«عودة الروح».. فى المرحلة الثانية بحَث عن التطابق بين المعانى فى عالمها الذهنى المجرَّد، والألفاظ التى تعبِّر عنها من اللغة، فجاءته مطواعة بشيء من التدرج، ثم التمكن من الأداة اللغوية والإمساك بناصية التعبير الجيد.

وهذه المرحلة تمثِّلها مسرحيات «شهرزاد»، و«الخروج من الجنة»، و«رصاصة فى القلب»، و«الزمار».. فى الثالثة تَجلَّت قُدرته على صياغة الأفكار والمعانى بصورة سلسة جيدة، وخلال تلك المرحلة ظهرت العديد من مسرحياته مثل: «سِرُّ المنتحرة»، «نهر الجنون»، و«براكسا»، و«سلطان الظلام».

ولا ترجع أهمية الحكيم إلى كونه مبدع (أهل الكهف)- أول مسرحية عربية ناضجة بالمعيار النقدى الحديث - فحسب، وصاحب رواية (عودة الروح)، التى يحكى الكثيرون إن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد تمثَّلها.

وأثَّرت فى وعْيه العميق، وخطَّ بقلمه تحت سطور وعبارات منها؛ فألهَمته - بشكل أو بآخَر - فى تخطيطه وقيادته لثورة يوليو 1952.. كما تتبدَّى أهمية الحكيم فى استلهامه صفحات وشخصيات من التراث المصرى فى الأعمال المسرحية والروائية، سواء الفرعونى أو الرومانى أو القبطى أو الإسلامي، كما أنه استمد أيضًا شخصياتِه وقضاياه المسرحيةَ والروائية.

من الواقع الاجتماعى والسياسى والثقافى المُعاصر لأُمَّته.. ومن أشهر مسرحيات الحكيم الذِّهنية مسرحية «محمد»، و»بِجماليون»؛والأخيرة معالَجة فنية لأسطورة إغريقيَّة حول شخصية «بِجماليون»، الإنسان الذى لا يرضَى بأيِّ حال من الأحوال، فلقد ضاق بتمثال المرأة الذى قام بنحْته؛ لأنه لا يتحدث معه ولا يحاوره، فطلَب من القوَى العليا أن تسبِغ عليها الحياة، وحين دبَّت فيها الدماء؛ عاد وضاق من الآخَر الذى تجسَّد فيها.. ولقد تَميَّز الحكيم بشَغفه فى تجريب التيَّارات الأدبيَّة المُختلِفة.

يرى د. مندور أنَّ الحكيم عَمِل على تطوير أسلوبه فى الفنِّ المسرحيِّ ضِمن ثلاث مراحل، مرحلة مسرح الحياة: وهى المرحلة الكتابيَّة التى تقَع بين فترة (1943-1951)م، حيث تمَّ جمْع مسرحيَّات الحكيم فيها ضِمن سلسلتَين، وهُما: «مسرح المُجتمع»، و»المسرح المُنوَّع».

وكانت هذه المسرحيَّاتُ تتطرَّق إلى السلوكيَّات الاجتماعيَّة، والأخلاقيَّة، وتُورِد رأى الحكيم فى الحياة الاجتماعيَّة، ومرحلة المسرح الذِّهنيِّ: تتضمَّن هذه المرحلة فى حياة الحكيم الكتابيَّة الأفكار الذِّهنيَّة التى نُوقِشت بطابع دلاليٍّ، بالإضافة إلى اعتماده التَّجريد فى النَّص المسرحيِّ، بدلًا من الصِّراعات المادِّيَّة، ومرحلة المسرح الهادف: تتناوَل هذه المرحلةُ النُّصوصَ المسرحيَّة، التى ألَّفها بعد عام 1952م.

وتحمِل رُوحًا وفلسفة جديدة فى فِكره، كما اشتُهر الحكيم - على مدى تاريخه الطويل فى المشهد الثقافى المصري- بنسْج الحكايات من حوله، فتارة هو عدو المرأة، المُضرِب عن الزواج، الذى يرى فى جمال المرأة التعويض الوحيد عن سطحيتها، رغم أنه من أهم الكُتاب الذين تناولوا قضايا المرأة والمجتمع بحُرية وعقلانية؛ لإبراز الغُبن الذى يقع عليها ضمن التقاليد والمفاهيم الاجتماعية والثقافة الذكورية.

وتارةً أخرى يُروِّج أصدقاؤه لبُخْله، ويقُصُّون المواقف متندِّرين، فى حين يقول عنه نجيب محفوظ: إنه لم يبْخَل بكلِّ ما يملك على أخواته وابنته. لكن يبقَى - الذى لا يعتريه الشكُّ - أن الكاتب والمفكر الذى أنتج كل هذا الإبداع فى الفكر والفن، وتحريك الراكد فى الحياة الثقافية المصرية والعربية، لا يمكن أن يتَّصف بالبُخل.

اقرأ ايضا | حنان ماهر تكتب: غلطة لاعب السيرك.. متتالية شعرية اعترافية!


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة