الأربعاء، 27 يوليه 2022 - 07:26 م

كان يسعى لتذليل الصعاب والدفاع عن الحق وكأنه بطل من أبطال السّيَر الشعبية التى عشقها وقدّمها للقُراء والطلاب

فرحتُ كثيرا بعودة الفنان محمد منير لجماهيره التى عشقت صوته وصدقه وأداءه وكلمات أغانيه، قيمة عالية نفتخر بها، وقد حضرتُ له قبل سنوات حفلا فى مدينة بون بألمانيا فى فضاء «راين أوَا» كان يغنى كأنه بطل شعبى بين الناس فى مسرح مكشوف حضره آلاف الألمان مبهورين بأدائه وصوته وإيقاع أغانيه المبهر الأَخّاذ، وبحق فقد اغترف منير من التراث الشعبى الصعيدى غَرف المحِب الواعى بأهمية هذا الفولكلور وجمال إيقاعه المتوارث، كان الحفل مبهجا ورائعا، لم يفهم الجمهور الألمانى كلمات أغانيه لكن المترجم أجاد فى ترجمة كلمات كل أغنية قبل أدائها وإن توقَّف أمام كلمات لم يستطع ترجمتها فألْمَنها مثل «شمندورة» فى أغنيته الشهيرة «يا شمندورة» لأن المترجم لم يكن قد قرأ الرواية الأولى فى الأدب النوبى «الشمندورة» لمحمد خليل قاسم رائد الأدب النوبى فالشمندورة هى العلامة العائمة المربوطة بسلسلة فى  قاع النيل تطفو حتى يعرف رُبان السفينة آخر المجرى العميق المسموح له بالإبحار فيه حتى لا تغرس السفينة أو القارب وقد تكون الشمندورة اسما لفتاة لكنها كلمة نوبية عُرّبت مثل غيرها من الكلمات.

أعود لمحمد منير وأغنيته «للى» التى كتب كلماتها الفنان أكرم حسنى ولحنها أيضا ودارت حولها اتهامات لكاتبها وملحنها بالسرقة الشعرية فى بعض كلماتها من الشاعر عادل صابر وكان هذا تساؤلا من الأديب أحمد أبو دياب لأنه رأى تشابها بين بعض كلمات أكرم حسنى وما كتبه من قبْل الشاعرعادل صابر ودافع أكرم حسنى عن نفسه بأنه توارد خواطر، والأعجب أن اللحن أيضا مأخوذ من تراث فولكلورى وهو ملك الجميع ومن حق محمد منير وغيره أن يغنيه وليس منير أول من أخذ لحنا تراثيا بل كثيرون قبله أغاروا عليه ولحنوه ومن عجب أن كل واحد منهم نسبه لنفسه! وهذه قضية يفصل فيها الموسيقيون، نأتى للكلمات هل أخذ أكرم حسنى: «اللى فتح باب الوجع واجبْ عليه ردّه» من الشاعر عادل صابر الذى كتب قبل سنوات «اللى فتح باب خراب واجب عليه رده».

وتوارد الخواطر يكون فى الأفكار والصور لكن أن يأتى فى الألفاظ فهذا لا أقبله كناقد وليس فى الأمر إنقاص للفنان أكرم حسنى لو قال إنه أخذ هذا السطر من عادل صابر ويعتذر ويشرك عادل صابر فى الحقوق الأدبية والمالية وينتهى الموضوع لكن أن يقول توارد خواطر فأعتقد أن التوارد الخاطرى لا يأتى لفظا فكيف يقع الحافر على الحافر...

الشاعر عادل صابر شاعر قوى متمكن وأراه عمدة الموال وفن الواو فى مصر وأكرم حسنى فنان فدعونا نستمتع بصوت الفنان محمد منير وبلحن تراثى قديم وبكلمات فيها من الحكمة والفلسفة اختزلها الفن الشعرى من قديم، وحتى لا يزعل الفنان أكرم حسنى من كلمة السرقة فالمتنبى اتُّهِم بسرقة أبيات شعرية ولو قرأت كتاب أبى سعيد العميدى «الإبانة عن سرقات المتنبى لفظا ومعنى» لرأى أن هذا يقع قديما وحديثا ولا أبرره ولا أدعو إليه لكنى أرصد ظاهرة، وقد يكون من التناص أوالتلاص، ومعظم الشعراء الكبار وقعوا فى هذا وذاك؛ وأما قول أكرم حسنى إنه ألف 20 بيتا اختار منها الكينج منير 12 بيتا فحبذا لو نشر لنا الثمانية أبيات التى لم يخترها منير والرجوع للحق فضيلة أما حكاية توارد الخواطر فهذا يُقبل لو أن شيطان أكرم حسنى الملهِم قريب شيطان عادل صابر أو أخوه لزَمْ.. هيا بنا نسمع الكينج ونترك الشعراء وهم فى النهاية حبايب.  

أحمد مرسى وداعاً

وراح كلٌّ يُعزّى فيه صاحبَه 

كُلٌّ يلوذ بصبرٍ لا يوافيهِ

كم أتعب كثيرا فى تحويل الأصدقاء من خانة الأحياء إلى خانة الموتى فى الذاكرة، يغدو هذا التحول عصيّا حين يرحل صديق صدوق كالدكتور أحمد مرسى الذى ما رأيته إلا مبتسما، حمل على كاهله فنون الأدب الشعبى وهموم المثقف المؤثّر الذى لا ينفصل عن الواقع الثقافى، عرك الحياة فأتى بأمثالها التى أدرك حكمتها فنشرها يوميا وصار قُراؤه ومحبوه ينهلون من بحر حكمته، أدرك أن الأدب الشعبى ليس ترفا وإنما هو جوهر الأدب وكنزه الذى اختزل الحكمة والمعرفة فصاغها فى كلمات قليلة منذ عصور بعيدة فاقتطفها أحمد مرسى وكأن الجدود همسوا بها فى أذنه فنقلها لنا، كان مخلصا لأصدقائه ولتخصصه ولبحوثه ولوطنه إخلاصا عميقا، فى الفترة التى توليتُ فيها أمانة المجلس الأعلى للثقافة كان نِعم الأخ المعين المساند، كان يسعى لتذليل الصعاب والدفاع عن الحق وكأنه بطل من أبطال السّيَر الشعبية التى عشقها وقدّمها للقُراء والطلاب، كان أحمد مرسى صديقا للجميع ولذا أحس الجميع بفقده أخا وصديقا كما أن إسهاماته العلمية والإدارية فى جامعة القاهرة وبنى سويف والجامعات العربية والعالمية وهيئة اليونسكو جعلته مرجعا معرفيا يفيد الجميع؛ بفقده فقدتُ أخا صديقا، لكن متى كان العمر يُقاس بالسنوات فعالِمٌ مثله سيظل فى قلوبنا وقلوب أبنائه وطلابه ومحبيه، وداعا صديقى العزيز.

 مدير جمارك المطار وكرتونة كُتب

من عجائب قرية البضائع والجمارك التى ينبغى أن تُحكى حتى تعرف الحكومة الإليكترونية أين وصلت فاقرأ يا مدير الجمرك ويا أيها القابعون فى مبنى وزارة المالية: قبل ثلاثة أشهر أرسل لى بعض أصدقائى الألمان كرتونة كتب على عنوان بيتى لكنها احتجُزت من جمرك قرية البضائع وطلبوا أن أجئ بنفسى ليرسلوها إلى الأزهر لفحصها علما بأن الكتب أدبية تحوى شعرا ونثرا ولا كتب دينية بها ولا مذهبية؛ قَلت لهم: أرسلوها للأزهر ولكل الجهات التى تودون مشورتها، فقالوا لن نرسلها حتى تحضر إلى قرية البضائع بمطار القاهرة ولأنى كنت مسافرا فلم أستطع أن أذهب فأعادوها إلى ألمانيا؛ ليرسلها الأصدقاء مرة أخرى وندور فى الدائرة نفسها..

احضر بنفسك أو بتوكيل رسمى ليرسلوها للأزهر، فيا مدير الجمارك: نحن فى دولة تنتهج طريقا نحو التقنية الحديثة والحكومة الإليكترونية فكيف يسافر العميل إلى مطار القاهرة كى ترسل كرتونة كتب للأزهر دون مبرر؟ أطالب بمساءلة هذا الموظف الذى أشار بإرسال الكتب للأزهر لفحصها دون معرفة بما تحتويه هذه الكتب؟ ومساءلة المسئول عن إرجاعها إلى ألمانيا فى المرة الأولى وربما تعاد فى المرة الثانية أيضا، هل يتدخل وزير المالية للإفراج عن كرتونة كتب أدبية أو تعود إلى ألمانيا مرة ثانية لتكون شاهدة على تعنت الجمارك فى مصر وعدم فهمها للثقافة والأدب؟ ولن أذهب للمطار حتى يتفضل الموظف النابهة بإرسال الكرتونة للأزهر، هذا التعنت لو كان من موظف فلْيحاسَبْ وإن كان من لائحة أو قانون فليُغيَّرْ، ورقم الشحنة CY294478835DE لو أرادوا حلا أو على الثقافة السلام.  

تطليع الشمس من الرأس 

رجل فى الثمانين من عمره يستند على جدار كرم نخيل جالسا على فروة خروف اختلط فيها اللون الأبيض بالأسود، يداه قويتان وعيناه كعيْنيْ صقر، يجلس القرفصاء يصطف أمامه - فى سوق الثلاثاء بقِفط - أناس يجلسون على الأرض فى انتظار دوْرهم فى أن يقوم هذا الرجل الثمانينى بتطليع الشمس من رؤوسهم.. يتفحص هذا الرجل القابع أمامه ويضع يديه على صدغيْ المريض يحركهما وهو يضغط فوق أذنيْ ذلك المستسلم أمامه ثم يضغط على رأسه حتى تتجمع يداه فى جبهة المريض بالصداع أو الأرق وفى منتصف الجبهة تتلاقى كفّاه فى نقطة ما ثم يسحب يديه فجأة وقد أحس المريض أن شيئا ما قد خرج من رأسه، إنها الشمس التى تعشش فى رأسه، شمس الصعيد الحارقة والأعجب أنهم لا يشكون بعدها صداعا أو أرقا..

كان هذا الرجل الأسمر العجوز يستوقفنى بجانب بائع صور الأنبياء؛ عندما كنتُ طفلا  أشكو من صداع عارض أقلد هذا الحكيم فأضع يديَّ على فوديّ ضغطا عسى أن أجمّع الشمس فى جبهتى لأخرجها من رأسى كما كان يفعل هذا الرجل الصبور، وحتى اليوم لا أجد تفسيرا علميا لما كان يقوم به لكن مرضاه ممن أعرفهم ذهب الصداع من رؤوسهم مع طليع الشمس. 

حكايا من التراث

ورد فى كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى:عن أبى عبيدة قال: كان ابن ميادة واقفا فى الموسم ينشد:  لو أن جميع الناس كانوا بتعلة...

وذكر تمام البيت والذى بعده  قال: والفرزدق واقف عليه فى جماعة وهو متلثم فلما سمع هذين البيتين أقبل عليه ثم قال...: أنا والله أولى بهما منك، ثم أقبل على راويته، فقال: اضممهما إليك:  لو أن جميع الناس كانوا بتلعــــــة    وجئت بجدى دارم وابــن دارم

لظلت رقاب الناس خاضعة لنا    سجودا على أقدامنا بالجماجم

قال: فأطرق ابن ميادة فما أجابه بحرف، ومضى الفرزدق فانتحلهما.

وروى الأصفهانى أيضا «وقف الفرزدق على الشمردل وهو ينشد قصيدة له فيها هذا البيت:

وما بين من لم يعط سمعا وطاعة    وبين تميم غير جز الحلاقــــــــــــم

قال له الفرزدق: والله يا شمردل  لتتركن لى هذا البيت: أو لتتركن لى عِرضك فقال: خذه، لا بارك الله لك فيه، فادعاه وجعله فى قصيدة له»
فى النهايات تتجلى البدايات

الصباحُ يدقُّ على الباب

لا بابَ هنا