أسامة عجاج
أسامة عجاج


أسامة عجاج يكتب: الأردن.. واحة استقرار فى منطقة مضطربة

أسامة عجاج

الخميس، 01 سبتمبر 2022 - 06:18 م

٣٥ عاما مرت بين أول زيارة لى للأردن، والأخيرة التى تنتهى اليوم، تبدلت أحوال، تغيرت ظروف، وحدثت تطورات على أكثر من صعيد فى المنطقة العربية والأردن، ولكن التحديات ظلت على حالها.

 

إذا أردت (فهم السياسة فعليك أن تبدأ بالنظر إلى الخرائط)، هذا هو الدرس الذى تعلمه الراحل الكبير محمد حسنين هيكل، من حواره مع أحد عظام القرن الماضى الرئيس الفرنسى شارل ديجول، عندما التقاه فى سبتمبر ١٩٦٧، وهو ما أطبقه شخصيا فى فهم السياسية الخارجية الأردنية، حيث شاءت الجغرافيا، أن ترسم للملكة الأردنية الهاشمية – التى مر على تأسيسها حوالى ٧٦ عاما- خريطة دفعتها لتلعب أدوارا استراتيجية، حيث تقع فى منطقة ملتهبة، بحدودها مع العراق وسوريا وإسرائيل والسعودية، وبدلا من أن تكون حاجزا بين كل تلك الجهات، اكتوت بنيرانها، عانت من أزماتها، دفعت أثمانا باهظة لصراعاتها، فالأردن فى قلب الصراع العربى الإسرائيلي، منذ الإعلان عن قيام دولة إسرائيل فى مايو ١٩٤٨، على مستوى صياغة العلاقات الثنائية مع إسرائيل، رغم التوقيع على اتفاقية سلام بين البلدين، كما أنها تتأثر باستمرار التوتر بين السلطة الوطنية الفلسطينية وتل أبيب، وسبق لها أن اكتوت بنيران حروب الخليج الثلاثة، بين العراق وإيران، والغزو العراقى للكويت، والغزو الأمريكى للعراق، ومازالت تعانى من حالة عدم الاستقرار منذ ذلك التاريخ، سواء فترة تأميم واشنطن للقرار فى العراق، أو مرحلة تقاسم النفوذ مع إيران، أو مرحلة الإعلان التام للأخيرة فى أن يكون لها الكلمة العليا، وتفاوتت العلاقات مع سوريا، بين حالات مد وجذر، طوال الحقب الماضية خاصة بعد مارس ٢٠١١، حيث تعانى الطبخة السورية من كثرة الطهاة، بفعل التدخلات والنفوذ الروسى والإيرانى والتركي، وجماعة حزب الله، وأطراف أخرى تدعم المعارضة السورية المسلحة.

استشراف استراتيجي
حوالى ٣٥ عاما مرت بين أول وآخر زيارة صحفية للأردن، الأولى كانت فى نوفمبر ١٩٨٧ والأخيرة انتهت اليوم الجمعة، تغيرت الأحداث، تبدلت الشخوص ولكن التحديات والتهديدات التى تواجه المنطقة العربية، ظلت واحدة والعناوين الرئيسية لم تختلف، وللأمانة والتاريخ فإن تلك السنوات تكشف وبوضوح عن امتلاك السياسة الخارجية لرؤية مستقبلية، للمخاطر التى تحيط ليس بالمملكة فقط، ولكن بالمنطقة العربية بأكملها، لدرجة أنه يمكن القول إذا أردت أن تعرف مسار الأحداث فى الشرق العربى فعليك بملاحظة السياسة الأردنية فى زيارتى الأولى لتغطية أول قمة عربية لى تحت شعار (قمة الوفاق والاتفاق) حيث دعا إليها الاردن واستجاب له كل الدولة العربية وغابت عنها مصر لتجميد عضويتها بعد اتفاق كامب ديفيد، وجاءت فى ظرف عربى شديد الخطورة، نيران الحرب العراقية الإيرانية المستمرة منذ سنوات، تلقى بظلال ثقيلة على الوضع فى المنطقة، وسط انقسام عربى تجاه الموقف منها، ناهيك عن استفزاز إيران لدول عربية عديدة، ومنها السعودية فى محاولة الاستثمار السياسى لفريضة الحج، بقيام الحجاج الإيرانيين بمظاهرات فى المدينة، ونتج عنها ضحايا فى المواجهات بينهم وبين الشرطة السعودية.

تحديات لا تتغير
وبعد كل السنوات مازالت الأمور على حالها، وقد تكون إلى الأسوأ، ومقارنة بسيطة بالواقع الحالى عما كان عليه فى قمة ١٩٨٧، نكتشف وبشكل واضح وجود ثلاث قضايا تطرح نفسها وبقوة على المنطقة، وهى كالتالي:

أولا: فى عام ١٩٧٨ كان الهدف من القمة العمل على إنهاء القطيعة مع مصر، بعد الفراغ الذى تركته بغيابها عن المنظومة العربية، نتيجة اتفاقيات كامب ديفيد، ونجحت القمة فى تلك المهمة، خاصة أن الدول المضيفة الأردن سبق لها أن أعادت علاقاتها مع مصر بشكل منفرد قبلها، وعادت العلاقات المصرية الفلسطينية إلى أعلى مستوى لها بعد زيارة الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات القاهرة فى ديسمبر ١٩٨٣، واتخذت القمة قرارا باعتبار عودة العلاقات مع مصر قرارا سياديا لكل دولة، ولم يتحفظ على القرار سوى ليبيا وسوريا، واستأنفت دول الخليج بعدها مباشرتها العلاقات مع القاهرة، وبعد كل تلك السنوات، أصبحنا الآن نبحث– والاردن فى القلب من تلك الجهود- إعادة تأهيل سوريا للعودة إلى المنظومة العربية، والمشاركة فى قمة الجزائر فى أول نوفمبر القادم، كجزء من محاولة أردنية لتحجيم النفوذ الإيراني، وبدأت تظهر ملامح الدبلوماسية الأردنية فى التعامل مع أزمات دول الجوار، والتى تتسم بـ (الواقعية) فى النظر إلى الأمور، بعيدا عن الأفكار الخشبية، أو الأيديولوجيات المعوقة، التى تساعد فى الإنجاز وتحريك الأوضاع، (والمبادرة الخلاقة) التى تحدد مسار الأحداث، حيث كان الأردن بحكم الجوار الجغرافي، واعتبارات أخري، كان الأقل من حيث التدخل فى الشأن الداخلى السورى بين الدول المحيطة، سوى ما يمنع تأثيراته السلبية على أمنه القومي، وقد شهد العام الماضى تطورات مهمة فى العلاقات الثنائية، من خلال اتصالات مستمرة ولقاءات بين مسئولى البلدين هدفها تعزيز التعاون فى كافة المجالات، وعلى مستوى قادة أمنين ووزراء الخارجية، واتصال نادر بين الملك عبدالله والرئيس بشار الأسد، ومناقشة موسعة مع قادة دول صناعة القرار فى واشنطن وموسكو وعواصم أخري، لمقاربة أردنية ضمن عدد من الخطوات، منها إعادة التركيز على الحل السياسى وفقا للقرار الدولى ٢٢٥٤، ومعالجة الأزمة الإنسانية، والتركيز على محاربة الإرهاب، واحتواء النفوذ الإيراني، كما تتضمن دفع الولايات المتحدة للمشاركة بفاعلية فى لجنة تضم روسيا ودولا أخرى فى مقدمتها مصر، بهدف العمل للاتفاق على أفق للحل السياسى ورفع العقوبات المفروضة على النظام السورى مع الإقرار بوجود مصالح لروسيا فى سوريا نتيجة دورها فى تثبيت اركان النظام، وتحقيقه لإنجازات على الصعيد العسكري، وقد حققت المقاربة الأردنية نجاحا ملحوظا، حتى لو بطيئا بحكم تعقد الأزمة، ومن ذلك الموافقة الأمريكية على مشروع مد الغاز المصرى إلى لبنان، عبورا بالأردن وسوريا، دون خضوعه لعقوبات قانون قيصر، وإذا نجحت جهود الأردن فالنتيجة انهاء مأساة شعب الذى يعانى من ظروف اللجوء للخارج والنزوح للداخل.

مخاطر إيرانية
ثانيا: فى قمة الوفاق والاتفاق، كان هناك استشعار عربى عبر عنه الأردن من مخاطر إيران على المنطقة العربية، وقال الملك الراحل الملك حسين بالنص (إذا استمرت الفرقة العربية، والتمزق العربى فإن «قم» الإيرانية – الحاضرة الدينية للشيعة– ستحكم العالم العربي.. مثلما حكمته الأستانة أيام العثمانيين) ويبدو أن الأمر كما لو كان استشرافا وقراءة دقيقة، بعد تفاقم الوضع وتحكم طهران فى مصير خمس عواصم عربية، العراق ولبنان وسوريا واليمن، واستمر الحال على ما هو عليه بشكل أكثر سوءا، بزيادة معدلات التدخل الإيرانى فى الشأن العربي، فوجدنا الملك عبدالله بن الحسين فى ٢٠٠٤، يحذر من مخاطر قيام هلال شيعى يضم سوريا والعراق ولبنان، ومنذ أسابيع وأثناء زيارة له للعاصمة الأمريكية منذ أسابيع، نبه إلى مخاطر (تصعيد محتمل على حدودنا، لأن إيران ووكلاءها سيملؤون الفراغ الحاصل من سوريا)، نتيجة استمرار حرب الاستنزاف، التى يخوضها الروس فى أوكرانيا، وإذا سبق لنا التحدث عن الجهد الأردنى فى إعادة سوريا الى الحضن العربي، خوفا من تحكم إيران فى مفاصل الدولة السورية، فهناك على نفس المستوى جهد مماثل من العاصمة عمان، لاستعادة وجه العراقى العروبى بعد استفراد إيران بالنفوذ هناك وشبه السيطرة الكاملة على مقدرات الدولة، وآخر هذه التحركات، نجاح المقترح الأردنى للتنسيق الثلاثى بين مصر والعراق والأردن، والذى شهد عدة قمم بين قادة البلاد، الأولى مع رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، فى مارس ٢٠١٩ ، ولقى دفعة قوية مع رئاسة الدكتور مصطفى الكاظمى لرئاسة الحكومة، حيث تم الاتفاق خلال قمة بغداد فى يونيو من العام الماضي، على حزمة مشاريع استراتيجية، تعزز فكرة الشراكة والتعاون الاقتصادى بين الدول الثلاثة، فى العديد من المجالات حيث تم الإعلان فى يونيو الماضى بين وزراء الخارجية، على بدء مشروع الربط الكهربائى بداية من العام القادم، بالإضافة إلى مشروع أنبوب نفط يربط موانى نويبع والعقبة والبصرة، مع مشاريع التجارة البينية والمنطقة الاقتصادية، وتعزيز التكامل فى الأمن الغذائى والدوائى والتعاون فى المجال الصناعي، ولعل ما يميز ذلك البعد أنه لم يلق معارضة من مكونات عراقية، رغم اختلاف توجهاتها، نظرا لأنه قائم على المصالح بعيدا عن فكرة المحاور السياسية.

أم القضايا
ثالثا: ضرورة السعى الجدى لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، باعتبارها بوابة الاستقرار فى المنطقة، وقد قالها العاهل الأردنى الملك عبد الله الثاني، أمام البرلمان الأوروبي، منذ أكثر من عامين، إنه (لا يمكن الوصول إلى عالم أكثر سلاما دون شرق أوسط مستقر)، مؤكدا على أن (استقرار الشرق الأوسط لن يتم دون سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين)، فمنذ عام ١٩٨٧ كانت نتائج قمة الوفاق والتضامن، محفزا رئيسيا لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الاولي، فى نهاية نفس العام، وللأسف الوضع يزداد سوءا يوما بعد يوم، رغم فشل مشروع صفقة القرن فى زمن ترامب، أو الناتو العربى بمشاركة إسرائيل مع بايدن، ويحارب الاردن على أكثر من جبهة على صعيد عملية السلام، تجاوز أزماته الثنائية مع إسرائيل، نتيجة عدم التزامها ببنود اتفاقية السلام بين الطرفين فى وادى عربة عام ١٩٩٤ ونموذجا لذلك الوعد، الذى قطعه نتنياهو على نفسه، عشية الانتخابات الأخيرة فى سبتمبر قبل الماضي، فى محاولة لتعزيز فرص نجاحه، (بإعلان السيادة الاسرائيلية على الاغوار وشمال البحر الميت)، والتمسك بالوصاية الأردنية التاريخية على المقدسات فى مواجهة محاولة اسرائيل النيل من تلك المسئولية، وآخرها تصريحات رئيس وزراء اسرائيل الاسبق نفتالى بينت فى مايو الماضي، بأن (القرار فى القدس والمسجد الأقصى تحديدا، سيكون لإسرائيل فقط، لن يسمح بأى تدخل أجنبي) قاصدا الأردن، ناهيك عن السعى الى استئناف المباحثات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

وهكذا فإن ٣٥ عاما لم تكن كافية، لتخفيف ضغوط الجغرافيا على الأردن، والذى ظل صامدا أمام التحديات، قادرا على الحفاظ على استقراره، رغم كل الحرائق التى تحيط به.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة