جبران خليل جبران
جبران خليل جبران


كنوز| حكاية الملك الناسك

الأخبار

الأربعاء، 21 سبتمبر 2022 - 07:09 م

جبران خليل جبران

خُبِّرتُ أن فتىً يعيش فى غابة بين الجبال، وأنه كان فيما مضى ملكًا على بلاد واسعة الأرجاء فى عبرالنهرين، وقيل لى إن هذا الفتى قد تخلى بملء اختياره عن عرشه، وعن أرض أمجاده، وجاء ليستوطن القفار، فقلت فى نفسى «لأسعين إلى ذلك الرجل، وأقف على ما فى قلبه من الأسرار؛ لأن من يتنازل عن المُلْك فهو بلا شك أعظم من الملك»، فذهبت فى ذلك النهار إلى الغاب حيثما كان قاطنًا، فوجدته جالسًا فى ظلال سروة بيضاء، وبيده عصا كأنما هى صولجانه، فحييته كما يُحيى الملوك، وبعد أن رد التحية التفت إليَّ وقال بلطف: «ما عساك تبتغى فى هذا الغاب الأعزل يا صاحبى، أجئت تنشد ذاتًا ضائعة فى الأظلال الخضراء، أم هى عودة إلى مسقط رأسك عند انقضاء شغل النهار؟». 

اقرأ أيضا | محسن فرجاني: مؤيدو مدرسة جبران خليل جبران في الصين أكثر من العالم العربي

أجبته قائلًا: «إننى ما نشدت إلاك، ولا شافى إلا الوقوف على ما حدا بك إلى استبدال مملكتك الكبيرة بهذه الغابة الحقيرة»، فقال: «وجيزة قصتى، فقد انطفأت فقاقيع غرورى فجأة وإليك حكايتى: بينما كنت جالسًا إلى نافذة فى قصرى، كان وزيرى يتمشى مع سفير أجنبى فى حديقتى، وعندما صارا على مقربة من نافذتى، سمعته يتكلم عن نفسه قائلًا: «أنا مثل الملك أتعطش للخمرة المعتقة، وأعشق جميع ضروب المقامرة، ويثور بى ثائر الغضب كسيدى الملك»، ثم توارى الوزير والسفير بين الأشجار، ولكنهما ما لبثا أن عادا بعد برهة، وإذا بالوزير يتكلم عنى فى هذه المرة قائلًا: «إن سيدى الملك مثلى يستحم ثلاثًا فى النهار»، وسكت لحظة ثم زاد قائلًا: «فى عشية ذلك اليوم تركت بلاطى، ولا شيء معى سوى عباءتى؛ لأننى لم أشأ بعد ذلك أن أكون ملكًا على قوم يدعون نقائصى لأنفسهم، ويعزون فضائلهم إلىَّ».

فقلت له: «ما أغرب قصتك وما أعجب أمرك!». 

فأجابنى قائلًا: «ليس هنالك من غرابة يا صاحبى، فقد قرعت أبواب سكينتى طامعًا منها بالكثير، فلم يكن لك منها سوى اليسير، بربك قل لى: من لا يستبدل مملكته بغاب تترنم فيه الفصول، وترقص طروبة أبدًا، كثيرون هم الذين تركوا ممالكهم ليستبدلوها بأدنى مراتب الوحدة والتمتع بحياة العزلة السعيدة؟، وكم هنالك من نسور هبطت من جوها الأعلى لتعيش مع المناجذ الذى هو من القواضم التى تعيش تحت الأرض وليس له عينان ولا أذنان، فتتفهم أسرار الأرض، بل ما أكثر الذين يعتزلون مملكة الأحلام لكى لا يظهروا للناس أنهم بعيدون عمن لا أحلام فى نفوسهم، والذين يعتزلون مملكة العرى ساترين عرية نفوسهم حتى لا يستحى الأحرار من النظر إلى الحق عاريًا، والتأمل فى الجمال سافرًا، وأعظم من هؤلاء جميعهم ذاك الذى يعتزل مملكة الحزن، لكى لا يظهر للناس معجبًا مفاخرًا بكآبته».

ثم نهض متوكئًا على عصاه، وقال: «ارجع الآن إلى المدينة العظمى، وقف بأبوابها مراقبًا جميع الداخلين إليها والخارجين منها، وَاعْنَ بأن تجد الرجل الذى زعم أنه ولد ملكًا فهو بدون مملكة، والرجل الذى زعم أنه مسود بجسده فهو سائد بروحه - ولكنه لا يدرى بذلك ولا رعاياه يدرون بسيادته - والرجل الذى يبدو للعيان حاكمًا، ولكنه فى الحقيقة عبد لعبيد عبيده»، وبعد أن فرغ من كلامه، نظر إليَّ فلاحت لى منه ابتسامه خلتها ألف فجر وفجر، ثم تحول عنى متغلغلًا فى قلب الغاب، أما أنا فرجعت إلى المدينة، ووقفت بأبوابها أراقب العابرين بى، على نحو ما قال لى، وما أكثر الملوك الذين مرت أظلالهم فوقى، منذ ذلك اليوم حتى الساعة، وأقل الرعايا الذين مر فوقهم ظلى.

من كتاب «مناجاة الأرواح»

اقرأ أيضاً|الشيخ أحمد نعينع.. طبيب القلوب والأرواح

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة