قربان «سعادة»
قربان «سعادة»


رفعت الجلسة| قربان «سعادة»

جودت عيد

الخميس، 13 أكتوبر 2022 - 07:39 م

أعلم سيدى القاضى أن المحكمة ليست طرفا فى النزاع مع زوجى، لكنها بالنسبة لى وللكثير من النساء ملجأ وأمان لهن، ليس من جبروت الأزواج فقط، بل لأننا بداخلها نمتلك الحرية كاملة دون قيد فى سرد مآسينا، وطلب القصاص العادل ممن كانوا سببا فى معاناتنا..

وأتمنى لو كان القرار بيدى، لأمرت بالقبض على من داخل قاعة المحكمة من أفراد أسرتى وأسرة زوجى، فهم مشتركون جميعا فى تحويلى من فتاة حالمة لم يتجاوزعمرها الـ17 عاما إلى سيدة بائسة، تقف أمامك الآن، بجسد متهالك ووجه شاحب، وعقل وقلب توقفا عن التفكير والإحساس، وأخيرا أم بالاسم فقط.

كانت الساعة قد اقتربت من الحادية عشرة صباحا، فتاة تجاوز عمرها الثلاثين عاما بقليل ، ترتكن بجسدها النحيل على باب قاعة محكمة الأسرة بالمعادى، فى انتظار الفصل فى دعواها بخلع زوجها.

فى ذلك الوقت كان محاميها مشغولا مع سيدة أخرى، ورغم ذلك لم تكن تعبأ بما يحدث حولها، هناك أمر ما يسيطر على تفكيرها، تفاصيل كثيرة تحاول ترتيبها فى عقلها وإعادتها إلى ذاكرتها من جديد، على أمل أن تسردها كاملة للقاضى بعد أن أغلقت أمامها جميع الأبواب، وأصبحت فى نظر القريبين منها مذنبة، مخطئة تعدت شروط الوصاية وتمردت على الأوضاع التى رسموها لها منذ الصغر وحتى الآن.

بدأت الجلسة وسط حضور أسرتى الفتاة وزوجها، لقد تفاجأوا جميعا بدعوى الخلع، أرادوا من حضورهم الى المحكمة إيقاف الأمر قبل أن يتطور، جاءوا لإقناع الفتاة بالتنازل عن الدعوى، مازالوا يرونها صغيرة، متهورة، تحتاج للنصح والإرشاد، لكنهم لم يدركوا حقيقة أن ما مرت به كان كافيا لأن يخلق منها وحشا يدفعها للانتقام من الجميع.

وقفت الفتاة أمام القاضى، قوية ، واثقة من نفسها ، رتبت أوراقها جيدا، وأخبرت المحكمة أن ما دونه محاميها من أسباب لطلب الخلع فى دعواها لا يعدو عن كونه سطرا من معاناتها الكبيرة.

قالت «منذ 13 عاما سيدى القاضي كنت فتاة لم يتجاوز عمرها السابعة عشر عاما، كانت السعادة تغمرنى فى ذلك الوقت ، لقد اجتزت أخيرا المرحلة الثانوية، تحقق حلمى بدخول الجامعة، وقتها كان والدى سعيدا، احتضننى بقوة، وكذلك والدتى وأشقائي، فأنا ابنة وحيدة على 4 أولاد.

لكن فجأة وأنا أشترى ملابس الكلية، صممت والدتى على شراء فستان «سواريه» ، أخبرتها أنني لا أريده ، وأن ما أحتاجه فقط هو لبس الجامعة، لكنها اشترته لى، وبعد عودتى إلى المنزل كانت المفاجأة ، شاهدت شابا فى منتصف العشرينيات من عمره يجلس مع والدى، يتحدثان فى أمور تخصنى، كان صوتهما مسموعا، وبعد دقائق طلبت منى والدتي ارتداء الفستان الجديد والخروج لتقديم المشروبات لذلك الضيف، الذى حضر مهنئا بنجاحى فى الثانوية العامة».

لم أكن أعلم سيدى القاضى حقيقة ما يحدث، لكن نظرات ذلك الشاب وأنا جالسة معه ، كانت غريبة ، لقد كان يتفحص جسدى ، يلقى إلى بابتسامة، وينتظر أن أبادله إياها.

خرج الشاب، وفجأة وجدت والدتى تحتضننى، كانت تقبلنى ، ثم أخبرتني ، ان الله يحبنى، كيف ذلك لا أعرف؟! ، المهم أنها بشرتني أن ذلك الشاب الوسيم الغنى، شاهدني، وأنا عائدة من مدرستى الثانوية العامة فأعجب بى، وحضر لخطبتى.

وقتها سيدي القاضي، لم تكن صدمتى من طلب الشاب ، بل من سعادة والدتى المبالغ فيها، فهى تعلم جيدا، أننى صغيرة ، بريئة ، لا أصلح أن أكون زوجة، لدى أحلام أريد تحقيقها مثل كل زميلاتي، والمصيبة أنها كانت تحلم معى، وتشجعنى على ذلك.

رفضت سيدى القاضى الفكرة من الأساس، أخبرت والدتى قرارى، لكن ما لم تعرفه، أننى من أسرة تزعم أنها متدينة، ترى أن ستر البنت بزواجها خير من الكثير من الأعمال الصالحة، قابل الجميع قرارى بغصب شديد، قاطعونى، صممت على رأى ، لكن كان والدى رجلا ذا بأس شديد، لا يعطى وعدا لأحد إلا ونفذه حتى ولو كان على حساب نفسه، أما والدتى فقد اختارت سعادتى بمال زوجى، فى حين رسم أشقائى أحلامهم بالعمل فى شركته.

تجاهل والدى سيدى القاضى قرارى، قام بدعوة الشاب وأبيه وأمه إلى المنزل، أخبرهم أنني وافقت على الخطوبة ثم الزواج ، حضر الجميع ، وقرأوا الفاتحة، حاولت الخروج للصراخ..

لكن منعنى اخى الكبير، كتم أنفاسى ودفعنى بقوة على الفراش، فى حين قامت والدتى بضربى وإهانتى، وهددنى والدى بقطع رقبتى إذا رفضت كلمته أمام الناس.

أجبرت على الارتباط من شاب لا أعرفه، ارتضيت بالأمر الواقع، حاولت أن أتجاوب مع الجميع، لكننى لم أستطع، ماتت أحلامى فجأة، تزوجت بعد عام من خطبتى، وأنا لا أعرف ما هو الزواج؟ ، فلم أدخل المطبخ يوما، ولم أتعلم حتى التجاوب مع زوجى، ألقونى مثل القربان لكسب رضا الأسرة الثرية.

دأت معاناتى سيدى القاضى بعد شهر من الزواج، لقد أصبحت حاملا، زاد قلقى، وبدأ جسدى يستقبل الأمراض، شعرت بتعب فى كل مكان، أصبت بانفلونزا الخنازير فى الشهر الثالث من الحمل، كدت أفقد روحى، لم أفهم ماذا يحدث لى، كل ما كنت أسمعه، هذه أعراض الحمل، تحملى، فما زلت صغيرة، مرت معاناتى على خير، أنجبت سيدى القاضى، وبعدها رفض جسدى إرضاع صغيرتى، تكفلت حماتى بكل شىء، كانت تقتلنى بكلامها عندما تخبرنى أننى صغيرة على تحمل تربية ابنتى، أخذتها منى واعتبرتها ابنتها، كانت تعاملها هكذا، وكلما حاولت الاقتراب وممارسة دورى كأم كانت تبعدنى.

كان الجميع يرونى صغيرة، غير قادرة على تحمل المسئولية، حتى إعداد الطعام لم يتطوع أحد لتعليمى، كان مطلوب منى فقط أن أشبع رغبات زوجى، ألا أجعله ينظر لفتاة اخرى، هكذا أخبرتنى أمى وحماتى، أما دورى كأم فقد سلبوه منى بزعم أننى مازلت صغيرة.

وكعادتهم سيدى القاضى، لم يتركوا لجسدى الراحة، عامين فقط، وبدأ الجميع يضغط علىّ لإنجاب طفل ثان، استجبت لهم، فلم يكن لدى حرية الرفض، امتلأت بطنى بطفل صغير، ومر جسدى بعشرات الأمراض التى هلكتنى، حتى أصابني مرض الضغط ، وهاجمنى على استحياء مرض السكر، وسكنتنى الانيميا، ورغم ذلك أنجبت طفلى، وكالعادة سلبته منى حماتى، وبنفس الحجة المتداولة على ألسنتهم «مازلت صغيرة « ، فأنا بالنسبة لهم الفتاة المطيعة، التى ضحت بأحلامها وتركت تعليمها من أجل حياة سعيدة مع شاب وسيم غنى، كما كانت تريد أمى، وسترة لى كما أراد ابى.

لم أتحمل الضغوط سيدى القاضى، صرخت فى وجه الجميع، طلبت منهم أن يتركوني أربي ابنائى، أعيش حياتى كما اريد ، أعود لأستكمل جامعتى، وأحقق حلمى الذى سلبوه منى، لكنهم وقفوا ضدى، خيرونى بين الحياة الزوجية وأحلامى .

أطلق والدى اللاءات الثلاث «طاعة الزوج فوق كل شىء «، ونثرت والدتى نصائحها ، « طالما موفر لك كل حاجه عيشى ويااه، كتير تعلموا وقاعدين في البيت» وأطلقت حماتى تهديداتها «سأزوجه غيرك اذا عصيت أمره وكملتى تعليمك» ، اما زوجى فطاعة أمه فوق كل شىء ، كان سعيدا بكونها من تربى أولاده ، رافضا استكمال تعليمى، مهددا بالزواج من امرأة اخرى اذا اقدمت على تنفيذ قرارى.

لم تكن تعنينى كل هذه التهديدات أكثر ما كان يؤلمنى أن ابنتى الكبرى لم تنطق كلمة ماما على لسانها، لقد بلغت الـ 13 عاما، وجسدها قارب جسدى، ومازالت تعاملنى كونى شقيقتها الكبرى، تستمع إلى نصائح وأوامر حماتى متجاهلة وجودى أصلا فى الحياة ، وهذا الأمر ينطبق كذلك على ابنى.

صرخت سيدى القاضى ، فاض بى الكل، سلبت منى حياتى، تحملت مسئوليات لا اعرفها ، فى وقت كنت فى حاجة فيه إلى تحقيق احلامى، اكثر ما يؤلمنى نظرتي الى زميلاتى فى الثانوية العامة، لقد تخرجوا وتولوا وظائف مرموقة، وتزوجوا وأنجبوا ومازالوا متمسكين بأعمالهم.

أنا هنا سيدى القاضى فى رحاب بيت من بيوت العدالة، واقفة أمام قاض جليل، وخلفى كل من ساهموا فى قتلى بالبطيء، اسرتى واسرة زوجى ، انا لا اطلب الخلع فقط، بل أن تشمل العدالة الجميع، فما يحدث معى، سيحدث مع الآلاف من الفتيات مثلى، اللاتى حرمن من استكمال تعليمهن واجبرن على الزواج فى سن صغيرة.

نهاية .. لى رجاء سيدى القاضى، آمل أن يكون هناك قانون يحظر ارتباط الفتاة قبل إنهاء دراستها الجامعية، حفاظا على مستقبلها، وحتى تكون قادرة على ممارسة حياتها الزوجية بصورة طبيعية.

بعد أن استمع القاضى لحديث الفتاة، أصدر حكمه بخلع الزوج.

إقرأ أيضاً|محامي نيرة أشرف: لن نقبل أي دية.. ونُطالب بالقصاص العادل |فيديو

 

 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة