عميد الأدب العربى د.طه حسين مع حبيبته الفرنسية «سوزان»
عميد الأدب العربى د.طه حسين مع حبيبته الفرنسية «سوزان»


كنوز| التاريخ يخلد أعظم قصة حب بين «العميد» والفرنسية الشقراء

عاطف النمر

الأربعاء، 02 نوفمبر 2022 - 05:58 م

فى الثامن والعشرين من أكتوبر 1973 حلقت روح عميد الأدب العربى د.طه حسين إلى خالقها عن عمر يناهز 84 عاما استطاع خلالها أن يزيل الصدأ عن العقلية العربية بما قدمه من فكر وثقافة وأدب ومعارك فُرضت عليه فكان ندا لها، لن نتحدث فى الذكرى 49 لرحيل العظيم بالجسد فقط لأنه باق بما أنجز.

سنتناول الجانب الإنسانى فى المحب العاشق الكبير طه حسين الذى كتب مع نصفه الآخر «سوزان» أروع قصة حب لم ينصفها التاريخ، قصة فلاح كفيف فقيربسيط جمعه القدر بفتاة فرنسية ارستقراطية مبصرة، رأى العالم بعيونها، وشرب العلم من صوتها فكانت بالنسبة له «المعلمة» والصديقة والحبيبة التى حطمت من أجله كل القيود، ثم أصبحت الزوجة التى أثمرت له «مؤنس وأمينة»، قصة الحب التى جمعت بين طه حسين وسوزان لا تقل عن «روميو وجولييت، وكليوباترا وأنطونيو، وشاه جيهان وممتاز محل، ونابليون وجوزفين، ومارى وبيير كورى»، إلى آخر قائمة الذين خلدهم التاريخ. 

قصة الحب التى جمعت بين طه حسين وسوزان تجسد قصة المستحيل، فهو مصرى مسلم من عائلة فقيرة وكفيف وجهه يحمل سمرة طمى النيل، وهى فرنسية مسيحية من عائلة أرستقراطية، مبصرة وشقراء بعينين زرقاوين، فهل أرسلها الله لتكمل الناقص لديه، وتسند ظهره، وتفخر به حتى أصبح العظيم الذى لن يتكرر؟ 

حتى بعد رحيله لم يتوقف الحب أو يتلاشى، فقد سجلت سوزان قصة حبهما فى كتاب «معك» الذى تقول فى الفصل الأخير منه: «كُنا معًا، دائماً وحدنا، قريبين لدرجة فوق الوصف، كانت يدى فى يده متشابكتين كما كانتا فى بداية رحلتنا وفى هذا التشابك الأخير، تحدثت معه وقبلت جبينه الوسيم، جبين لم ينل منه الزمن والألم شيئا من التجاعيد، جبين لم ينل منه هموم الدنيا من العبس، جبين مازال يشع ضوءًا ينير عالمى». 

لنتأمل ما قاله «العميد» فى واحدة من رسائله لها: «بدونك أشعر أنى أعمى حقاً، أما وأنا معك، فإننى أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإلى أن أمتزج بكل الأشياء التى تحيط بى»، أليس هذا الحب كما يجب أن يكون؟!

تحكى «سوزان» فى كتابها عن طه حسين الإنسان والأب والزوج، ومعاركه الفكرية، تفاصيل كثيرة تستعيدها بعد وفاته بعامين فتقول فى بداية كتابها: «أريد أن أخلد للذكرى مستعيدة ذلك الحنان الهائل الذى لا يُعوض»، حنان فاض به طه حسين عندما سحره صوتها لحظة لقائهما الأول فى 12 مايو 1915 فى «مونبلييه» بفرنسا عندما كان يدرس بكلية الآداب، وهى هاربة من القصف الألمانى لتتلقى تعليمها، قرأت إعلاناً فى جريدة عن طالب أجنبى كفيف يحتاج قارئاً.

وتقول عن هذا اللقاء: «لم يكن ثمة شيء فى ذلك اليوم ينبئنى بأن مصيرى كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمى التى كانت بصحبتى أن تتصور أمراً مماثلاً»، ويعترف «العميد» فى كتاب «الأيام» بأنه مدين لها بتعلم الفرنسية، وتعمق معرفته بالأدب الفرنسى، وتعلم اللاتينية التى أتاحت له نيل إجازة الآداب، وتعلم اليونانية التى قرأ بها أفلاطون فى النصوص الأصلية». 

قال لها أهلها إن زواجها من أجنبى مسلم كفيف ضرب من الجنون، لكنها كانت قد حسمت أمرها بقولها: «كنت قد اخترت حياةً رائعة، وليس ثمة ما يدعو للخجل»، فتزوجا فى ظروف صعبة عام 1917 لأن الحرب العالمية الأولى كانت دائرة، وتصف الظروف بقولها: «تعلمت فى تلك الأيام أن آخذ نصيبى من كل المحن التى اختصت بها الحياة الرجل الذى أحبه»..

وبعد سنوات عاد طه حسين إلى مصر وبرفقته سوزان وابنته ورسالة الدكتوراه، لم تكن الزوجة سعيدة فى مصرعندما أتت إليها لأول مرة، لكن حبها لحبيبها جعلها تتغير 180 درجة وقالت عن ذلك: «ما أكثر ما تألمت، ثم غدت مصر بالنسبة لى أكثر من وطن، أحبها كما أَحبها طه ولا أحتمل أن يراد بها شر أو أن يتجاهلها العالم»، بالتأكيد الحب يصنع المعجزات، وقصة حبهما الأسطورية من المعجزات. 

تحكى سوزان فى كتابها بعض المنغصات التى كانت شاهدة عليها، فتشرح موقفاً يوضح دهشتها من عقلية بعض المتشددين، فتقول إنها صُدمت عندما علمت بما دار فى اللقاء الذى جمع بين طه حسين وشيخ فى منصب كبير سأله باستهجان: «لماذا تزوجت فرنسية؟.. لو كنت حراً لاشترعت قانوناً ينفى كل مصرى يتزوج من أجنبية!!».

فقال طه: «أرجوك يا سيدى اشترع هذا القانون، فإنى أستعجل ألا أستمع إلى مثل هذا الكلام !»، لكن الشيخ استأنف كلامه قائلا: «يا دكتور طه أود فهم الأسباب الحقيقية التى حملتك على الزواج من أجنبية، فأنت مصرى طيب، ووطنى عظيم الذكاء..

فكيف أقدمت على هذا العمل؟!»، أجابه د. طه: «قابلت فتاة أحببتها فتزوجتها، ولو لم أفعل لبقيت عازباً أو لتزوجت نفاقاً من مصرية، كنت سأجعل منها امرأة تعسة»!..

فقال الشيخ صاحب المنصب المرموق: «هذا أمر لا أستطيع تصوره!»، فأجابه د. طه منهيا الجدل: «بل هذا أمر لن تستطيع تصوره دوماً يا فضيلة الشيخ، فنحن لا ننظر إلى الأشياء بالطريقة نفسها أبداً»!!.

منغصات كثيرة تعرض لها «العميد» وكانت سوزان شاهدة عليها، تضايقت من التفكير المنغلق لدى الآخرين من وجهة نظرها، ووجهة نظر من أحبته لأنه صاحب رؤية ليبرالية منفتحة على الغرب، وساع إلى التوفيق بين الحضارة الحديثة والماضى العربى الإسلامى، والتراث الفنى لمصر القديمة، وتؤكد الحبيبة أن المعارك التى خاضها د.طه أساءت صحته، وبدأ يستعيدها عندما سافرا إلى فرنسا للاستجمام فى قرية بإقليم سافوا لمدة 8 شهور، أنجز فى 
9 أيام فقط منها الجزء الأول من «الأيام»، وتستعيد تلك الأوقات قائلة: «سأعيد القيام برحلاتنا كلها، سأتوقف حيث توقفنا، وفى الصمت اتجه نحوك بكل قواى، كل ما بقى منى يأتى إليك، وإنما لكى آتى إليك أكتب وأتابع كتابة كل ما يطوف بقلبى».

عاد «العميد» للقاهرة واستكملت هى الإجازة فى باريس، كانا يتبادلان الرسائل، فكتب إليها يقول: «سوزان.. أود لو أصف لك ضيقى عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة، فقد دخلت غرفتنا وقبلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التى لا أراها، ومع ذلك فقد فعل أصدقائى كل ما بوسعهم لتسليتى، عندما عدت واجهت الفراغ، السرير الذى لايزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب، يستحيل علىّ القيام بشىء آخر غير التفكير بك، ولا أستطيع أن أمنع نفسى من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك فى كل مكان دون أن أعثر عليكى، لنقل إننى فى القاهرة فى سبيل حماقة ما».

وتقول سوزان عن اللحظات الأخيرة فى حياة الحبيب: «كنا معاً، وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف، ولم أكن أبكى فقد جاءت الدموع بعد ذلك ولم يكن أحد يعرف بعد الذى حدث، كان الواحد منا قبل الآخر مجهولا ومتوحداً، كما كنا فى بداية طريقنا، وفى وسط هذه الألفة الحميمية القصوى، أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التى كثيراً ما أحببتها»..

بتلك الكلمات الفياضة ترجمت سوزان معاناتها على الورق لوصف اللحظات التى سبقت وداع الحبيب لها فى 28 أكتوبر 1973، لتبقى الذاكرة مزدحمة بصور ومواقف تجسد قصة حبهما الخالدة، إلى أن لحقت بحبيبها فى عام 1989 أى بعد 16 عاما عاشتها وحيدة مع الذكريات. 

«كنوز»

إقرأ أيضاً|القومي لثقافة الطفل يحتفل بالذكرى 45 لرحيل عميد الأدب العربي

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة