د. علاء الجرايحي
د. علاء الجرايحي


غياب القدوة.. عمود التربية فى الزمن الجميل

بوابة أخبار اليوم

الجمعة، 04 نوفمبر 2022 - 05:05 م

بقلم: د. علاء الجرايحي

ليت الزمان يعود يومًا.. هذا لسان حالى وجيلى الآن، عندما نُشاهد أجيالنا الجديدة تترنَّح فى التيه، وتضيع فى السذاجة والتفاهة، والجرى خلف السفيه من القول، والقبيح من الفعل، فقديمًا كانت الأسرة المصرية أكثر ترابطًا وانضباطًا؛ لما تقوم عليه من قواعد صلبة، وأساسات متينة، ومبادئ ثابتة لا تتغيَّر بتغيُّر الظروف والأحوال داخل النظام الأسرى العام للمجتمع المصرى، حيث كان الأب هو رمز البيت، والقدوة والعائل الرئيس، ومصدر الأمن والأمان والهيبة الممزوجة بالاحترام والتواضع فى ذات الوقت، كما كانت الأم النموذج الأمثل فى التربية والاحتواء والعطف على الأولاد، ومن مهامها الأولى المتابعة المستمرة لتحركات أولادها وأسلوب حياتهم، سواء فى البيت أو خارجه، من تعامل بعضهم لبعضٍ، أو من عبر اتصالهم بالأقارب والجيران، وزملائهم بمراحل التعليم أو فى الشارع، ثم خطوات تعليمهم منذ اليوم الأول للدراسة والتحصيل العقلى؛ إذ كانت لا تستعين بالأب إلا عند الضرورة القصوى، أو قل وقتما تُواجه مُعضلةً ما، تكون أشد خطرًا على حياتهم أو على مستقبلهم التعليمى، لأن من مهامها أيضًا تخفيف العبء عن كاهل رب البيت، لمواجهة مشقة العمل، وأعباء الحياة المُتزايدة، ولمواصلة مسيرة الكفاح التى خُلق لأجلها، فالأم عامل رئيس ومحورى فى ضبط قواعد البيت بالكامل، أو هكذا قُدِّر لها..

وحين نتحدَّث عن المدرسة، فى زمانهم، فبإمكانك أن تُطلق العنان لخيالك الواسع فى التربية والتعليم والتأديب والتهذيب وتعويد الالتزام، فإذا كان البيت هو المسئول الأول والأخير فى التنشئة الصحيحة السليمة للنشء، فإن المدرسة الركن الثانى الأصيل فى إتمامها على الوجه الأمثل والمطلوب، فبمجرد دلوف الطالب لباب المدرسة، يكون الانضباط سيد الموقف، فى اللبس والمظهر، وإحضار أدوات التعلُّم من كُتبٍ وكراريس وأقلامٍ ومسطرة وأستيكة، والتأدُّب فى السير والتعامل مع الصديق والرفيق والعامل والمعلم مُجتمعين، ثم احترام الوقت وقُدسية مكان العِلم، بدءًا من ساحة المدرسة فى السابعة صباحًا، وحضور طابور الصباح، وتحية علم الدولة التى لها فضلٌ عليه، ومرورًا بالتوجُّه فى السرب الطلابى نحو الفصول بشكلٍ مُنتظم لا يقبل الاعوجاج، نهايةً بالجلوس على المقعد المخصَّص له انتظارًا لمعلمه الذى سيُلقى عليه الدرس..

أما المُعلم، فهو الأب الثانى للطالب، الذى له من الإجلال والتقدير، ما يعجز القلم عن وصفه وذكره، فقد كان التلميذ يعرف قدر مُعلمه جيدًا، عملًا بمقولة "مَنْ علَّمنى حرفًا صرتُ له عبدًا"، فإن رآه يدخل الفصل مُتجهًا إليه، يهم واقفًا رافعًا يده لإعطائه التحية، ولا يجلس إلا إذا سمح له مهما طال زمن وقوفه، وإن بدأ فى الشرح أنصت الجميع، فترى الذهن حاضرًا غير مُشتَّتٍ، والفصل صامتًا لا تسمع لأركانه همسًا، اللهم إلا من صوت المعلم الذى يُلقِّن طلابه مشارب العلوم والمعارف التى تعلمها وقت أن كان مثلهم، فإذا فرغ وهمَّ بالانصراف، وقف الكل يُودِّعونه كما استقبلوه عند مجيئه، وإن شاهدوه بالشارع بعد خروجهم من المدرسة، فإما يتخفُّون خوفًا منه، أو ينحنون عند الوقوف أمامه احترامًا وتقديرًا له، أو يسلكون طريقًا آخر يعرفونه حتى لا يراهم فى طريقه المار منه، فى صورةٍ أدبيةٍ بديعة، ربما لا تراها إلا بين الأب وابنه، وهو ما يُدلِّل عن مكانة المُعلم فى نفوس تلاميذه، أجيال الزمن الجميل، فى مشاهد ربما غابت عن أعيننا اليوم.

إن تشكيل شخصية النشء، فى هذه الفترات من عُمر الزمن، كانت كثيرة ومُتعددة، فبالإضافة للبيت والمدرسة، كانت أيضًا الكتاتيب التى تُعتبر تمهيدًا لدخول مرحلة التعليم الأساسى، كالحضانة فى وقتنا الراهن، وتعمل قبل أو جنبًا إلى جنب مع المدرسة، إذ يحفظ فيها الأطفال القرآن وتعاليم الدين الذى يدعو للسماحة والحُب والانتماء والإخلاص والسلام، وشيخها رجلٌ ذو وقار، يهابه الكبير والصغير من سُكان القرية والمدينة، وله دورٌ رائدٌ ومُؤثِّر فى تعلُّم الطفل أبجديات الكتابة والنطق السليم للحروف، والتعرُّف على مبادئ الدين الأساسية، وكيفية الصلاة والصوم والمعاملة بالحُسنى مع الجميع، وتحفيظه قصار السور من كتاب رب العالمين، والعمليات الحسابية البسيطة، ناهيك عن دُور العبادة أيضًا مثل المسجد والكنيسة، اللذان كان يلجأ إليهما الجميع للتقرُّب إلى الله، سبحانه وتعالى، وتخليص النفوس والأرواح من الشوائب والآثام وتكفير الذنوب وما يُثقل النفس البشرية باستمرار، لذا كنا نرى الحياة هادئة ومُفعَّمة بالصبغة الإنسانية الجميلة التى خُلقنا عليها، فترتسم الابتسامات على الوجوه مُبشِّرةً بالأمل والسعادة، وكان من سمات المجتمع المصرى المُؤصَّلة فيه، الاحترام والتواضع والرضا الكامل بالإقبال على الحياة، سواء كان الشخص غنيًا أو متوسِّط الحال أو فقيرًا يقدح فى الدنيا لكسب قوت يومه، فالكل راضٍ بما قسم الله له، وهو على يقينٍ دائم وتام بأنه سيأخذ نصيبه المُقدَّر له فى الدنيا فى الصحة والدين والمال والأولاد وراحة البال دون زيادةٍ أو نقصان، فتجد الحِكمة والفصاحة تلتفح الجميع؛ لأن التربية كانت الأساس فى تقويم الجيل والنشء، والمفردات اللغوية الصحيحة مُعبِّرة عن وجودها وتجذُّرها، لغرسها منذ البداية، لإيمانهم المُطلق بأن "التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر".

من المؤسف تحوُّل الأسرة المصرية اليوم، بفعل فاعلٍ، إلى أسرة بدون عنوانٍ، فقد اختفى منها دور الأب القدوة والمثل الذى يُحتذى، والأم المدرسة التى كانت تقوم بإعداد أفراد أسرتها خير إعدادٍ للمستقبل، بشموخٍ واعتزازٍ وتفانٍ كبير، والمعلم المُربِّى، والشيخ الجليل، والقس المُوقَّر، بفعل مُدخلات كثيرة منها المرئية الظاهرة بكل وسائلها من موبايلات أحدث جيلٍ، وشاشات تلفازٍ بقنوات ملء السمع والبصر، ثم الشتات الرهيب وقلة تأثير الرأى على الأطفال، مع تراجع دور الكُتَّاب والمدرسة ودُور العبادة، وتدنى حال المُعلم الذى لهث وراء جمع الأموال من الدروس الخاصة ونسى أو تناسى دوره الأصيل فى التأسيس والتنشئة، فاندثر بالتالى الرمز والقدوة، وأصبح غير موجودٍ بالمرة، مما صعَّب التربية القويمة، التى تكاد تكون غاية بعيدة المنال للبعض حاليًا، فنحن من ألحقنا بأطفالنا وأجيالنا الجديدة الأذى من كل النواحى، بالتهاون الأُسرى الفجِّ، بحُجَّة الانشغال بصعوبات الحياة، وتخويفهم الزائد من أماكن العبادة، تحت مُبرِّر عدم تلويث أفكارهم، رغم الرقابة الصارمة عليها من الوزارة المختصة، ما يجعلهم يتوجَّهون إلى آفةٍ أكبر تخترق عقولهم ومداركهم وتتلاعب بها، وهى السوشيال ميديا، التى لا تحكمها ضوابط أو يُميِّزها معيارٌ واضح، فأصبح النشء عُرضة للانحراف الفكرى والأدبى والعاطفى والإنسانى بشكل كبير جدًا، لا يُمكن السيطرة عليه مع الوقت؛ لأنه فى مرحلة التكوين يكون أكثر قابليةً لتخزين وتقبُّل المُدخلات التى تُملى عليه، والتى تستهدف بالطبع أفكاره ومعتقداته، فهذا الجيل هو ضحية لكل مُتربحٍ، ولكل فكرٍ فاسدٍ وضال وشارد، والسبب فى ذلك كله، هو غياب أو تغييب دور أركان التربية والتعليم، التى كانت قديمًا عنوان الزمن الجميل.

عندما تقع الجريمة، أندهش وأتعجَّب ممن يسأل لماذا حدث هذا، والإجابة بالطبع؛ لأنك تركت وغيرك أولادك يُشاهدون، أثناء غيابك وانشغالك عنهم، أفلامًا دموية، وألعابًا خيالية خطرة، فأصبح لدينا جيلٌ بأكمله يُحب تقليد مشاهد الرعب وممارسة فنون القتل وجرائم العنف والسرقات، واللهث وراء المال والثراء بكل الطُرق وإن كانت غير مشروعةٍ، ومعاكسة الفتيات أضحت بطولة وروشنة شبابية، وشرب الدخان والمخدرات علامة على الرجولة المبكِّرة، فلا تندهش يا هذا ويا ذاك من كثرة الدم والقتل ومن الفساد المُنتشر فى المجتمع، وأنت تُعطى المجال لأولادك يتذوقونها يوميًا كالأكل والشرب، عليك بمصارحة نفسك أيها الأب بأنك مَنْ خذلت أولادك وجعلتهم عُرضة للأخطار وساحة للأفكار، وأنت مَنْ جعلتهم بغيابك بلا مشاعر إنسانية غائبى العقول، مُغيَّبى الوعى، فلا تلومنَّ إلا نفسك قسوة قلوبهم عليك يومًا ما، لأنك تركتهم يلعبون بابجى، ويُشاهدون عبدة موتة وما يُثير غرائزهم الجنسية، ويسمعون انتش واجرى، ما الذى كان يهم هذا الطفل المسكين الذى ضاع فى غياهب الحياة الواسعة؟ هل المال الذى تُكافح لجمعه أم إحساسه بالأبوة والأسرة، وإرشاده لاختيار المُدخلات السليمة لعقله، التى تُقوِّمه وتقويه وتجعله يشعر بقيمة نفسه، وتزرع فيه الحُب والولاء والانتماء..

أدعوكم ونفسى بدورنا الأساسى فى الحياة، بالاهتمام بأطفالنا ومتابعتهم، وإحكام القبضة على كل وسائل الخطر بأيديهم وأمامهم، من موبايلات وشاشات تلفاز وأجهزة حاسوب، والتحكم فى مُدخلاتهم العقلية، حتى يُصبح لديهم وعى كامل بما يتلقونه، وحينها نكون قد أدينا رسالتنا، وعليهم تبعات قرارهم إذا ما اختاروا طريقًا غير السليم المرسوم لهم، ولئلا يسأل كلٌّ منا نفسه، كيف ألومه وأنا لم أُخبره الصواب، ولم أمنحه فرصة التعلُّم الصحيح، ولم أقم بضبط القواعد الأساسية له، وتركته عُرضة منذ صغره لأشياء ما كان له أن يكتسبها إن وجد مَنْ يُرشده للصواب من الخطأ.. افعل دورك أولًا بالتربية السليمة نحو الجيل الذى سيقوم عليه الوطن، علِّمه الحق والجمال والمسئولية والعمل، وحينها سنرى جيلًا نعتز به، وقيادات نُوليها ناصية أمورنا بصدرٍ رحب، وحُماة عرين لسلالتنا العريقة التى بنت أهرامات وأسَّست حضارات وثقافات، وجعلتنا بالتاريخ أصالة، فلا يُمكن إنكار تراث أجدادنا الأوائل فى العلوم والمعارف، ولا يجرؤ أحدٌ على نكران تاريخهم وما شيَّدوه، ولكن ما نفعله فى أبنائنا سيمحى الماضى والحاضر والمستقبل.. امنحوا الوقت لأولادكم، فهم الأمل والمستقبل، وبهم العِزة والمجد والكرامة، هم مَنْ يحفظون التاريخ، هم بلا منازع حُماة الوطن العريق مصر.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة