د. يوسف إدريس
د. يوسف إدريس


كنوز| صح النوم يا أهل الكهف!

عاطف النمر

الأربعاء، 16 نوفمبر 2022 - 06:39 م

بقلم: د. يوسف إدريس

أمسكت ورقة الأسئلة، لا كوليِّ أمر طالب فى الإعدادية، وليس أبدًا ككاتب له ربع قرن يزاول الكتابة وله أكثر من ثمانية وعشرين كتابًا، وإنما أمسكت ورقة أسئلة اللغة العربية كتلميذ يحاول الإجابة ويريد أن يعرف قدرته، إن اللغة العربية هى مادتى اليومية التى أتعامل معها، كما أن السمك مثلًا هو المادة اليومية التى يتعامل معها السمَّاك.

قرأت الأسئلة بغير عناية كبيرة، ولكنى ما لبثت أن اعتدلت فى الكرسى، وزيادة فى الدقة لبست النظارة، وبتمعُّن شديد أعدت قراءتها، وقلت لنفسى: إما أن اللغة العربية التى أكتب بها وأستعملها وأفهم بها الناس ويفهموننى هى اللغة الصحيحة، لغتنا التى نطقنا بها أول ما نطقنا وكتبنا بها ومازلنا، وإما أنها لغة خاطئة وهناك لغة أخرى لا نعرف عنها شيئًا، هى اللغة العربية الحقيقية التى يعلِّمونها فى المدارس، وهى التى أيضًا وضعوا لها هذه الأسئلة. 

رغم كل اهتمامى واعتصارى لخلايا عقلى لم أستطع أن أجيب على سؤال واحد، أمسكت بكتاب القواعد ألتمس الإجابات، إذا أُعِلَّ حرف فى الموزون لا يُعَلُّ فى الميزان، وإذا كان الكلام ناقصًا منفيًّا تُعرَب «غير» حسب موقعها، والمضارع المضعَّف يُفكُّ إدغامه مع نون النسوة، والمعتل بالواو والياء لا يحدث فيه شيء مع ألف الاثنين ونون النسوة، ولكن مع واو الجماعة وياء المخاطبة يُحذَف حرف العلة ويُضم ما قبل الواو، ويُكسر ما قبل الياء، ضمائر الرفع المتصلة وضمائر الرفع المتحركة، والناقص المعتل بالألف إذا كان ثلاثة أحرف تُرد الألف إلى أصلها ياءً مثل رميت، وواوًا مثل دعوت، أما إذا كان أكثر من ثلاثة فتُقلَب الألف ياءً مثل اشتريت، ويحدث هذا مع كل الضمائر إلا واو الجماعة، فمعها تُحذف الألف ويُفتَح ما قبلها وتُسكَّن الواو. 

أزحتُ الورقة والكتاب جانبًا وأنا شاحب الوجه ؛ فقد اكتشفتُ أنى نصَّاب كبير، وأنى ظللتُ أكتب وأكذب على الناس لمدى ربع قرن بينما أنا جاهل بهذه اللغة العربية، وبهذا النحو والصرف، وقلت لنفسى: إما أننى إنسان كالسيد البدوى، وُلِد وأسنانه النحوية والصرفية كاملة، وأن سليقته وحدها سوَّاها الله سبحانه وتعالى من عجينة من نحو وصرف، وإما أن هذا النحو كله نصب فى نصب، وتفسير للماء بعد الجهد بالماء، وتعليلٌ أحمقُ ومُوغِلٌ فى حماقته لتعقيد اللغة البسيطة وإحالة ما فيها من بساطة إلى ألغاز لا يدرك أسرارَها إلا كَهَنة اللغة العربية، كما كان كهنة آمون يحوِّلون الأدعية البسيطة إلى طقوس كهنوتية ينطقونها بلغة ومصطلحات لا يفقهها العامة؛ إذ بهذا وحده يظلون هم الكهنة أصحاب السلطة الروحية والنفوذ، لقد ظللت ربع قرن أكتب ويقرؤنى الناس، وأنا لا أعرف أن الحرف إذا أُعِلَّ فى الموزون لا يُعلُّ فى الميزان. 

هذا هو السبب إذن فى كُرْه الأجيال الجديدة للغة العربية ؛ فنفس ما يحدث فى النحو والصرف يحدث فيما يسمونه بالاسم السخيف «النصوص»، يسمون لغة الشعر الجميلة، إبداع الكاتب، تألق الخطيب، نصوصًا، المؤامرة على اللغة العربية تكمل باختيارات هذه النصوص؛ فهى مليئة بأسخف ما أنتجته القريحة العربية من شعر أو نثر، وبالذات إذا كان الاختيار من الأدب الحديث، فهم يختارون أولًا لأصدقائهم وزملائهم المتأدبين الموظفين فى وزارة التربية والتعليم، ثم إذا بقى هناك مكان يختارون لشعراء من الدرجة الثالثة والرابعة والعاشرة، لم يسمع عنهم أحد ؛ كلامًا ركيكًا ليس فيه حتى تشبيه واحد يدعوك للإعجاب أو يُثير انبهارك. 

إن تدريس اللغة العربية لا يزال يُدرَّس كما كان يُدرَّس فى الأزهر منذ خمسمائة عام، ولقد تطوَّر تدريس اللغات حتى أصبح عِلمًا يخرج باللغة وقواعدها من عقلها السحيق إلى حاضر عصرنا، يا أهل الكهف: صحِّ النوم !. 

من كتاب « أهمية أن نتثقف » 

اقرأ أيضاً | كنوز| يوسف إدريس يفتح النار على «مدرسة المشاغبين»

 

 


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة