الثلاثاء، 06 ديسمبر 2022 - 07:41 م

كانت تمنحني كامل تركيزها وهي تسير بجانبي في ذلك الشارع، وفجأة فقدتها تماما، صحيح أنها ما تزال بجانبي، لكنها لا تسمعني، ولا تراني، ولا تهتم بما أقول، كانت تنظر لـ"مطعم سمك"عن يمينها وتستنشق رائحة الشواء وتغمض عينيها بانتشاء، ثم عادت لتفتحهما من جديد لتتأمل أنواع الأسماك المدفونة في الثلج خلف اللوح الزجاجي للثلاجة الكبيرة الموضوعة في مدخل المحل، وهي تضع يديها على صدرها وكأنها تؤدي صلاة!

إنتِ إسكندرانية؟ سألتها.. وأجابت: نعم.. ولكن كيف عرفت؟!.. ضحكتُ وقلت لها: الناس يصطادون السمك، لكن السمك هو من يصطاد الإسكندرانية، ويضعهم في شباكه ويستولي على عقولهم وقلوبهم وجميع حواسهم في لحظة واحدة!

إن معرفة الأرض التي  نشأ فيها الشخص تخبرك الكثير عن سلوكه، وتفسر لك تصرفاته، وتجعلك تفهم جزءا كبيرا ومهم في طبيعته، وتسهل عليك التعامل معه، إن الأرض التي جئنا منها تتحكم في كل شئ بداخلنا!

خلق الله آدم من طين. "من قبضة قبضها الله من جميع الأرض" كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه الإنسان الأول الذي يجب أن تجتمع فيه كل صفات الخلق، وهذا ما يميزه عن أبنائه الذين ينتمون إلى الأرض التي نبتوا منها.

عندما ننشأ في بلد ونهاجر إلى آخر، فإننا نحمل الأرض التي جئنا منها، بل يمكننا القول إننا الأرض التي تهاجر إلى أرض أخرى، ما يجعلنا نحتفظ بجميع خواصنا طيلة حياتنا، وننجذب دوما إلى عاداتنا وتقاليدنا، وموروثاتنا الثقافية بكل طقوسها في المـأكل والمشرب والملبس والموسيقى.

هاجر باراك أوباما، والد الرئيس الأمريكي الأسبق من كينيا إلى أمريكا وتزوج هناك من سيدة بيضاء، وضع في رحمها بذرته، لتنجب طفلا يحمل الاسم  والبشرة نفسهما، ليظهر في شخصية إفريقية تجيد ممارسة الصبر والوصول إلى الحكمة والتحدث بالجسد!

لم يكن باراك الابن إفريقيا خالصا، لكن جينات الأب كانت الأقوى، الأب الذي لم يعش معه ولم يكن يزوره إلا مرات نادرة، كان الأكثر نفوذا في تكوينه النفسي، فلم يستطع الابن أن ينتزع إفريقيا من داخله، عاشت معه في طفولته وشبابه وكانت محور اهتمامه، تتغلغلت في كل خلية داخل رأسه، وكانت السبب الرئيسي في وصوله إلى البيت الأبيض!

غالبا نسأل الشخص الذي نتعرف عليه للمرة الأولى عن المكان الذي ينتمي إليه، لأنه السؤال الأهم الذي يخبرنا الكثير عنه، ولأن الصندوق الأسود لكل إنسان موجود في الجذور التي لا يمكنها أن تفارق الأرض المغروسة فيها.

قل لي من أين أتيت؟.. أخبرك من أنت!