يوسف القعيد
يوسف القعيد


يوسف القعيد يكتب: ناصر.. فى ذكرى ميلاده

يوسف القعيد

الإثنين، 16 يناير 2023 - 06:56 م

فقال له عبد الناصر:توديك إنت. أما الأستاذ نجيب فإن كانت عنده شجاعة الكتابة فلابد أن نتحلى بشجاعة النشر والقراءة. فمن حقه أن يقول ما يشاء.
مرت علينا ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر. ورغم أنها مرت، إلا أن البعض توقف أمامها، والبعض تركها تمر. مع أنه غيَّر وجه الحياة فى بلادنا وفى الوطن العربى وفى العالم الذى خرج إلى الدنيا كرد فعل على ما قام به من بطولات ونسميه العالم الثالث.

عندما زرت سوريا كان نصف الكلام مع المثقفين السوريين عن جمال عبد الناصر. وعندما ذهبت إلى اليمن وقابلت شاعرها الكبير عبد العزيز المقالح وشاعرها الأكبر عبد الله البرادونى ظهر عبد الناصر خلال الكلام رغماً عنا. وهكذا فإن منجز الرجل يتعدى مصر لوطننا العربى والعالم الثالث.

شهادة نجيب محفوظ
عندما طلب منى المرحوم خالد جمال عبد الناصر أن يزور نجيب محفوظ. وحملت رغبته لنجيب محفوظ استغرب واندهش ورحَّب. كان ترحيبه صادقاً. كنا نلتقى يوم الثلاثاء أسبوعياً فى سفينة فرح بوت الراسية بنيل الجيزة. وكان يمتلكها الدكتور إبراهيم كامل. وفتح أبواب السفينة أمامنا.

جاء الدكتور مهندس خالد وجلس معنا. ورغم أنه قال لى قبل الحضور أنه سيمكث فى جلستنا بعض الوقت وينصرف. إلا أنه ظل منذ حضوره بعد بدء الجلسة بقليل وحتى نهايتها. قال لنجيب محفوظ أنه عندما كانت تصدر له رواية جديدة كان الوالد يُحضر لنا نسخاً منها لكى نقرأها ثم يناقشنا فيما قرأناه. ونون الجماعة تعود على أفراد العائلة.

وقد أكدت لى فيما بعد الدكتورة هدى جمال عبد الناصر هذه المعلومة. وأنها أيضاً قرأت نجيب محفوظ من خلال النسخ التى كان يحضرها الوالد إليهم بمجرد صدورها. لم يكتف عبد الناصر بهذا. بل كان يناقش من قرأ فيما قرأه. ويوجه له الأسئلة، ويستمع إلى الإجابات بتأنٍ وهدوء. ويستخرج من الإجابات أسئلة جديدة.
أذكر أن عبد الناصر التقى بنجيب محفوظ عندما افتتح مبنى الأهرام الجديد وقدمه هيكل لعبد الناصر، قال له الرئيس:
- إزيك، وإزى ناس الحسين بتوعك؟.
ثم استطرد عبد الناصر قائلاً إنه يحرص على قراءة كل رواية يكتبها. فقال هيكل لهما:
- ستنشر الأهرام له الأسبوع القادم رواية «تودى فى داهية».

فقال له عبد الناصر:
- توديك إنت. أما الأستاذ نجيب فإن كانت عنده شجاعة الكتابة فلابد أن نتحلى بشجاعة النشر والقراءة. فمن حقه أن يقول ما يشاء.

فى سبيل الحرية
عبد الناصر لم يكن قارئاً للروايات فقط. ولكنه حاول الكتابة فى شبابه فكتب رواية أطلق عليها: فى سبيل الحرية. ولم يكملها. وقد أقامت وزارة الإرشاد القومى مسابقة لاستكمال الرواية التى حاول عبد الناصر كتابتها ولم يستكملها بسبب مشاغله. وكانت محاولته فى أربعينيات القرن الماضى. وربما كان انشغال عبد الناصر بحملة فلسطين هو السبب فى عدم اكتمالها.

أقامت الوزارة مسابقة لاستكمالها لكل الكتاب. وحاولوا استكمالها. وفاز بها الروائى عبد الرحمن فهمى. الذى ربما لا يعرفه الكثيرون من شباب هذه الأيام. وشارك غيره كثيرٌ من الكُتَّاب والأدباء بنصوص روائية سواء من داخل مصر أو من خارجها. والجزء الذى كتبه عبد الناصر طُبِّع ونُشر بعد ذلك. أما الروايات التى كُتِبت لاستكماله والتى فازت فى المسابقة المعروفة فقد نُشِرت بعد ذلك تباعاً.

فاتن حمامة
قالوا إنها قد جرى التضييق عليها فى زمن عبد الناصر. لدرجة أنها هاجرت من مصر وأقامت فترة فى بيروت وأخرى فى لندن. ولم تعد إلى مصر إلا بعد رحيل عبد الناصر. وعندما تواصلت معها بعد عودتها إلى مصر وبعد رحيل عبد الناصر، وذهبت إليها فى بيتها كان لدىَّ أمل أن تقوم ببطولة روايتى: 24 ساعة فقط، فى عمل سينمائى أو تليفزيونى.

وبعد أن قرأت الرواية اعتذرت لأنها لم تكن متحمسة للعمل بشكل عام. ورأت أن الدور قد يكون مرهقاً ومتعباً لها. المهم أننى سألتها فى حوار طويل معها نُشِرَ فى حياتها عن تركها مصر فى زمن عبد الناصر. وقالت لى إنه كانت هناك مخاوف على الحريات وعلى صناعة السينما. ثم إنها رغبت فى أن ترى بيروت وتعيش فيها، وبعدها انطلقت إلى لندن ثم عادت إلى مصر لتستأنف عملها العادى كأهم بطلة فى تاريخ السينما المصرية.

المهم أننى احترمت رأيها واجتهادها وما توصلت إليه. وأيضاً لم يزعجنى تركها مصر لأنها بعد أن عادت إلى الوطن كانت العودة أيضاً لممارسة العمل السينمائى سواء فيما تبقى فى فترة حكم عبد الناصر أو السادات ومبارك فيما بعد. ولتواصلى معها قصة أحب أن أستكملها. فعندما اختار المخرج الراحل صلاح أبو سيف الفنان عمر الشريف ليقوم ببطولة فيلم: «المواطن مصرى»، وأنا شخصياً لم أكن متحمساً لهذا الاختيار لمعرفتى بمواقف عمر الشريف المسبقة ورأيه العام الذى قد يجعله لا يتحمس لتمثيل الفيلم والقيام ببطولته.

كان عمر الشريف يقيم فى باريس. وقد سافر إليه هناك المخرج والمنتج الجميل حسين القلا. وعرضوا علىَّ السفر معهم. واعتذرت، رغم أن السفر إلى باريس مُتعة وثقافة وأى متعة مهما كانت الملابسات والظروف والحكايات. لكنى اكتشفت بعد حضوره أنه مهنى من الطراز الأول. وقد اهتم بكل تفاصيل الدور الذى سيقوم به. لدرجة أنه ذهب بنفسه إلى سيدنا الحسين ليشترى ملابس عمدة لقرية مصرية ويُجرِّبها بنفسه قبل أن يتم التصوير بها.

الأشقاء العرب
ما من مثقف عربى جاء إلى مصر إلا وكانت زيارة ضريح عبد الناصر ضمن برنامجه. ذهبت مع البعض منهم. واعتذرت للبعض الآخر بعد أن رتبت له أمور الزيارة. وأذكر أننى ذهبت إلى أحد فنادق الزمالك الكبرى لكى أصطحب الروائى الفلسطينى الجميل إميل حبيبى عندما زار ضريح عبد الناصر.

قبل أن نترك الفندق كان حريصاً على أن يشترى باقة ورد كبيرة من محل بالفندق. وذهبنا إلى هناك وقدموا له دفتراً كبيراً ليكتب كلمة بمناسبة الزيارة. وكتب كلمة تقطر رِقَّة وعذوبة وإنسانية شديدة النُدرة فى حب جمال عبد الناصر الذى كان يرى أنه نصير القضية الفلسطينية الأول. وأنه يعمل من أجل فلسطين مثلما يعمل من أجل مصر.

ذهب معى إلى الضريح الشاعر الفلسطيني سميح القاسم الذى عندما جلس ليُدوِّن كلمة فى دفتر الزيارات كتب شعراً ولم يكتب نثراً فى حب عبد الناصر والارتباط به. وكان موقفه مثل موقف إميل حبيبى ومحمود درويش، إنهم يرون فى الرجل نصير فلسطين الأساسى.

أم كلثوم وحليم
لم أسمع منهما مباشرة حكاية كل منهما مع جمال عبد الناصر. ولكن سمعت من أطراف أخرى. وقرأت لاحقاً حكايتيهما مع جمال عبد الناصر، وكيف أن أم كلثوم ذهبت إلى بيته غاضبة من بعض قراراته دون موعد سابق، وأنه استقبلها فى حديقة البيت، وقد أوشكت على الانصراف بسبب الوقت الذى قضته فى انتظار المقابلة. وكان ودوداً معها، سعيداً بها. وفى مرة أخرى حالت الظروف دون اللقاء. فذهب إليها فى فيللتها بالزمالك على سبيل المصالحة.

أما عبد الحليم حافظ، فقد كان صوته الذى حوَّل إنجازاته فى أغنياتٍ جميلة غنَّاها لكل ما قام به من إنجازات عظيمة فعلها من أجل مصر والوطن العربى والعالم الثالث. وأعتقد أن صوت حليم قد نقل التجربة الناصرية بالشعر والنغم إلى كل مواطن فى الأمة العربية باتساعها الكبير.

وأذكر أننى عندما ذهبت إلى صلاح جاهين لأحاوره أن الدموع أوشكت أن تنزل من عينيه عندما توقفنا فى محطة عبد الناصر والأغانى التى كتبها عنه وعن بطولاته الفريدة. رغم أنه كان يتعامل معى بشكل شبه رسمى وكان يُحدِّثنى وهو يرسم رسمته التى تُنشر فى اليوم التالى. ومع هذا عندما وصل الحديث إلى عبد الناصر ظهرت الدموع جليَّة واضحة فى عينيه.

شهادة هيكل
خلال حوارى مع أستاذ الأجيال محمد حسنين هيكل، والذى كان عنوانه: محمد حسنين هيكل يتذكر: عبد الناصر والمثقفون والثقافة، حدَّثنى طويلاً عن صديقه جمال عبد الناصر، انطلاقاً من شهادة شخصية على كل ما جرى تحت سمعه وبصره من التجربة الثقافية لعبد الناصر الذى كان عصره زمناً للمجد الثقافى القومى، حيث وصلت الثقافة المصرية إلى كل شبر فى الوطن العربى والعالم الثالث والدنيا كلها.

كان يحكى بتلقائية نادرة ولا يتوقف أمام أى شيء، ويقول كل ما يمكن قوله عن التجربة الثقافية لزمن عبد الناصر. وهى التجربة التى أعطت لثقافتنا بُعدها القومى والعالمى كما لم يحدث من قبل رغم أنهم يصفون الزمن السابق على حكم عبد الناصر بالليبرالية الكبرى. إلا أن زمن عبد الناصر هو الزمن الذى أبدع فيه نجيب محفوظ، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى، وحسين فوزى، وصلاح جاهين، وفؤاد حداد، وعبد الرحمن الأبنودى، أفضل ما عندهم من شعر.

بعد أن انتهيت من التسجيلات اشترط علىَّ الأستاذ هيكل أن يُراجع المادة قبل النشر. وفوجئت بأنه حذف الكثير جداً، واستبعد وقائع وآراء واجتهادات لا حصر لها. ويبدو أن هناك فارقاً كبيراً جداً بين أن يحكى الإنسان بطلاقة وعفوية وبين أن يُراجع ما سبق أن حكاه. وافقت لأن هذا كان شرطه قبل التسجيل معى. وكان لدىَّ أمل كبير أن يوافقنى لاحقاً على نشر ما حذفه. ولكن ذهبت كل محاولاتى سُدى. ولم يوافقنى أبداً على الوجه الآخر على العلاقة الفريدة بين عبد الناصر ومثقفى عصره.

عندما رحل هيكل عن عالمنا اكتشفت أن نشر المحذوف أصبح من رابع المستحيلات. وسيبقى محذوفاً إلى الأبد. ويوم أن أرحل عن الدنيا سيذهب معى إلى القبر، رغم أهميته وصدقه وموضوعيته. ولكنه وحده كان صاحب الحق فى أن يُصرِّح لى بالنشر من عدمه. وقد رفض فى حياته مبدأ النشر. وكان هيكل - يرحمه الله رحمة واسعة - مبدئياً دقيقاً وصادقاً وصارماً فى مواقفه.

هذا ما جرى معى خلال هذا الكتاب الذى أعتبره من أهم الكتب التى كتبتها فى حياتى. ليس لأننى كاتبه. ولكن لأن الفترة التى يحكى عنها مهمة وجوهرية وأساسية فى تطور الثقافة المصرية فى القرن العشرين .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة