إبراهيم عبدالمجيد
إبراهيم عبدالمجيد


إبراهيم عبدالمجيد يكتب: دق الهوا ع الباب

إبراهيم عبدالمجيد

الخميس، 19 يناير 2023 - 05:09 م

يومًا ما، وللأسف لا أذكر التاريخ، لا اليوم ولا العام، كنت أجلس فى إحدى المراكب النيلية قريبا من ميدان التحرير، وكانت بها سهرة مع إحدى فرق الفنون الشعبية المصرية. الصدفة جعلت العظيم يحيى حقى يحضر تلك الليلة فتقدمت إليه سعيدا صافحته وعرفته بنفسى، ولم أكن نشرت غير عدد متفرق من القصص القصيرة ولم أنشر كتابا بعد. جلسنا نستمع ورأيت كم هو متوحد مع الغناء الشعبى، وبعد أن انتهى الغناء قال لى « دق الهوا ع الباب قلت الحبيب جانى .. اتارى الهوا كداب بيدق بالعانى» وكانت هذه من الأغانى التى غنتها إحدى المطربات تلك الليلة. نفس المعنى غنته فيروز بكلمات وألحان الرحبانية، لكن للأغنية أصلا شعبيا لدينا أيضا.

لم يكن المعنى غائبا عنى فكل من ينتظر شيئا يُخيل إليه أنه يتحقق، فما بالك بالحبيب الذى طال شوقه لحبيبه الغائب ومعاناته من غيابه، والذى كلما دق الباب تخيل أنه قد عاد إليه، بينما الحقيقة هى سراب، فالألم والشوق هو الذى يجعل المحب يتخيل أن الباب يدق، بينما الدقات هى دقات قلبه مع الانتظار والأمل.

الأمر طبعا يتسع ولا يتوقف عند الأحباء فقط، بل يشمل كل الآمال الصادقة. كثير منها قد يتحقق فعلا فما أكثر ما تتذكر صديقا فتجد الموبايل يدق ويظهر لك اسمه على الشاشة، أو تمشى فى شارع مشيت فيه يوما مع حبيبة فرق بينكما الزمان، لتجدها تمر عليك فى سيارة أو ماشية مع شخص آخر رغم مرور سنين طويلة كان طبيعيا فيها أن تنسى.

لا يحتاج المرء عادة إلى شىء يعيد إليه الأحلام الضائعة، فهى تقفز إذا ضاقت الدنيا حوله، أو إذا فكرته الأماكن بمن كانوا معه فيها، أو إذا استمع لأغان ما ارتبطت بزمن ولى ووجوه غابت، لكن التفكير فى الأمر يأخذنا إلى معنى أكبر، وهو رحلة الحياة نفسها بعيدا عن مفرداتها أو أحداثها.

الحياة رحلة نبذل فيها أكبر جهد لنكون فى وضع أفضل، ونلاقى فيها كثيرا من الصراعات، ولا تكتمل إلا بالرحيل عنها. لكن هل حقا مع الرحيل تكون اكتملت؟ الشيخوخة ليست أمرا مكروها إلا لما يصاحبها من أمراض. بدون ذلك هى زمن الحكمة، فكلمة واحدة من شيخ عجوز قد تُغنى عن عشرات الكلمات.

الحقيقة أن الموت أو الرحيل يُكمل الرحلة شكلا، لكن موضوعا لا يتخلى الإنسان مهما تقدم فى العمر عن الرغبة فى شىء جديد. الحياة مهما طالت فهى ناقصة لا تفى بما يريد الإنسان، ودعك مما تسمعه من الآباء والأجداد عن نعمة الحياة التى عاشها واكتفائه. الحقيقة أنه يريد أن يحقق أكثر لكن تخذله الصحة. لكن حتى لو حقق أكثر فهل سيصل إلى غايته؟ لن يصل. بعيدا عن الأفراد فهذا مجمل مسيرة الإنسان. لا تكتمل رحلته أبدا ويظل الهوا يدق بالباب ولا أحد يأتى.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة