عبدالحليم قنديل
عبدالحليم قنديل


عبدالحليم قنديل يكتب: أزمة إسرائيل الحقيقية                        

بوابة أخبار اليوم

السبت، 25 فبراير 2023 - 02:10 م

هل يعنى النزاع الداخلى الدائرفى "إسرائيل" شيئا للفلسطينيين ؟ ، حكومة "بنيامين نتنياهو" و"بن غفير" و"سموتريتش" وغيرهم من المجرمين وأرباب السوابق ، نجحت فى كسب ثفة "الكنيست" بالقراءة  الأولى لقانون ما يسمى "الإصلاح القضائى"، وفى القراءتين الثانية والثالثة للقانون نفسه، لا يتوقع أحد أن يجرى سحب القانون، الذى عارضه فى الكنيست 47 عضوا فقط من إجمالى المئة والعشرين عضوا، فيما تبدو المعارضة أوسع خارج الأسوار البرلمانية.

ويتدفق آلاف "الإسرائيليين" إلى الشوارع، فى مظاهرات بلغ عدد المشاركين فيها إلى مئة ألف، كلهم يعترضون على تقييد حدود عمل ما يسمى "المحكمة العليا"، وتشديد قبضة الحكومة فى تعيين قضاتها، ولا يخفى الهدف من القانون إياه، فهو يهدف مباشرة إلى إنقاذ رقبة "نتنياهو" المتهم بالاحتيال والفساد والتربح، ومنع المحاكم من اتخاذ أى عقوبات بحق "نتنياهو" ورفاقه فى الحكومة الموصوفة بالأكثر تطرفا، وجعل مصير "نتنياهو" وحكومته رهينا فقط بتصويب نواب ائتلافه الإرهابى.

ولا تحتاج القصة لكلام كثير فخيم ، عن تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وعن انهاء الفصل بين السلطات، وعن تدمير حكومة "نتنياهو" السادسة لأسس ما يسمى بالديمقراطية الإسرائيلية، وعن سعيها لابتلاع الدولة، وعن الغاء المسافة بين معنى الحكومة ومعنى الدولة، وعن تفكيك حصانة المحاكم، فهى قصة مكذوبة محصورة باليهود دون العرب فى كيان الاحتلال، ولم يسبق لهذه "المحكمة العليا"، أن أصدرت حكما واحدا تنصف فيه عربيا فلسطينيا، ولا أن عارضت قانونا عنصريا فاقعا كقانون "القومية" مثلا، ولا أن عارضت إجراء لحكومة إسرائيلية ضد الفلسطينيين فى الضفة وغزة أو بالداخل، لا فى سرقة أملاك الغائبين، ولا فى هدم منزل فدائى أو أسير، ولا فى إبعاد وطرد أى فلسطينى، ولا فى اقتحام مدينة أو قرية أو مخيم فلسطينى، ولا فى القتل المجانى الهمجى للفلسطينيين والفلسطينيات داخل بيوتهم أو بالشوارع ، كما يجرى كل يوم، وجرى فى "نابلس" وقت كتابة هذه السطور، وأعطت المحكمة إياها رخص الإقرار والتسليم و"المشروعية" لكل جرائم كيان الاحتلال الإسرائيلى منذ وجد، وكانت دائما عنوانا لافتعال "قانونية" كل عدوان وفعل وحشى ، ولم يغضب أحد "يهودى" صهيونى منها أو لها، إلا حين نشب نزاع مصيرى بين المحتلين الصهاينة، يهدد بحرب إفناء للصهيونية شبه العلمانية، فى مقابل تصاعد واستشراء نفوذ "الصهيونية الدينية"، ورغبتها فى صياغة مؤسسات الاحتلال على طريقتها، وعلى مقاس أساطيرها التوراتية، وتحويل الكيان رسميا إلى حكم دولة الحاخامات.

وبطبائع الأحوال، فنحن لا ندعو إلى تجاهل ما يجرى فى الكيان الإسرائيلى المحتل، ولا إلى التهوين من شأن وأثر النزاع الجارى، فقد لا تكون لنا ناقة ولا جمل فى مصير هذه "المحكمة العليا"، التى تخصهم، ولا تعنى العرب الفلسطينيين، لكن ما حدث ويحدث، يعبر فيما نرى عن تقلصات وتشنجات غير مسبوقة فى كيان الاحتلال، تعود إلى ما قد نسميه محنة الموهومين بالنصر الإسرائيلى، والقصة ليست وليدة اللحظة، بل إلى نحو 55 سنة مضت، ففى حرب 1967، حقق كيان الاحتلال نصره الفعلى العسكرى الأخير، واقتطع القدس والضفة وغزة والجولان وسيناء فى حرب خاطفة ، ثم اضطر للجلاء فيما بعد عن سيناء بحرب الاستنزاف وحرب 1973 وتسوية كامب ديفيد الأولى ، وبدء عصر التطبيع العربى، والاعتراف الرسمى بشرعية مزورة لكيان الاحتلال.

 وبما زاد الوضع العربى تفسخا وعجزا، ثم لتناسل صور التطبيع من "أوسلو" و"وادى عربة" إلى اتفاقات "إبراهام" ، وهو ما بدا معه أن "إسرائيل" تعيش عصرها الذهبى ، وأن الطرق مفتوحة سالكة أمامها ، لكن المفارقة التى برزت ، أن "إسرائيل" على تضخم قوتها العسكرية والتكنولوجية ، وعلى ضعف وهوان المشهد العربى الرسمى المقابل ، لم تتمكن من إحراز نصر عسكرى واحد بعد حرب 1967، لا فى حرب الاستنزاف ولا فى حرب 1973 ، ولا فى غزو لبنان ، الذى اضطرت للجلاء عن آخر شبر فيه تحت ضغط ضربات المقاومة ، ولا فى حروبها الخمس ضد قطاع غزة ، الذى اضطرت للجلاء عنه قبلها تحت ضغط ضربات المقاومة فى الانتفاضة الفلسطينية الثانية ، ناهيك عن تشقق وانهيار "صيغة أوسلو" باتفاقاتها وتوابعها ، وبقرار من الشعب الفلسطينى ، تتلكأ السلطة الفلسطينية فى التسليم به ، برغم توالى موجات ربيع الحرية فى القدس والضفة الغربية ، وقد صعدت فى السنوات الأخيرة ، وجندت فى صفوفها أغلب الفلسطينيين دون سابق تنظيم.

 وأثارت هلع مؤسسات وقوات كيان الاحتلال ، ودفعتها بغرائز الخوف إلى تحطيم اتفاقاتها مع سلطة أوسلو ، وإلى شن حروب القتل والطرد والهدم والإبعاد ، من حملة "السور الواقى" لصاحبها المجحوم "شارون" ، إلى حملة "تكسير الأمواج" لصاحبها الأخير "يائير لابيد"، وحكومته السابقة على حكومة "نتنياهو" و"بن غفير" الحالية ، ومن دون أن تسفر الحروب كلها عن نصر ما أو حتى شبهة انتصار للاحتلال ، فكلما أوغلوا فى القمع والقتل والتنكيل، زادت حرارة المقاومة والعناد الشعبى الفلسطينى ، وكلما تغولوا فى اقتحامات المسجد الأقصى المبارك وتدنيسه، تدفقت جموع مضافة من الشعب الفلسطينى إلى ميدان المقاومة الشعبية والمسلحة ، وكلما انتشوا بوهم أن القدس صارت لهم وللأبد، وأن واشنطن تدعمهم للنهاية، وأن أغلب حكام العرب والمسلمين صاروا فى معسكر "أصدقاء إسرائيل"، كلما أسكرهم الوهم والاصطناع، بان الفزع فى القلوب والعقول، وهم يرون شعبا مصمما على نيل حريته وهدم صولجانهم ، وليس حكومة صورية يتفقون معها ، فجوهر ما يجرى هو عودة الشعب الفلسطينى إلى صدارة التاريخ ومعركة كسب المصائر ، وكأن ما فعلوه وراكموه عبر 75 سنة من الاحتلال ، مهدد بالتحول إلى قبضات ريح ، بعد أن تضاعف الحضور الفلسطينى فوق الأرض المقدسة.

وتتابعت مشاهد المقاومين العائدين من الماضى المنفى ، فقبل عشرين سنة من اليوم ، كان شارون "ملك إسرائيل" يصرخ بعد معركة "جنين" ، ويقول بالنص "لقد عدنا من جديد إلى حرب 1948" ، ثم ذهب "شارون" بعدها إلى غيبوبة موت طويلة ، لكن صحوة الشعب الفلسطينى استمرت وتصاعدت ، وتكاثفت الصلات بين أقسامه فى الضفة وغزة والداخل المحتل منذ وقت النكبة ، وصار العنوان الجامع فى "القدس" برمزيتها الهائلة ومكانتها الحاسمة ، وفقد "الإسرائيليون" كل شعور بالأمان ، وبالقدرة على توقى خطر يأتيهم من حيث لم يحتسبوا ، ولم يعد بوسعهم سوى تجريب حيل الهروب إلى الأمام ، إما بكسب حكومات عربية وإسلامية جديدة إلى اتفاقات "إبراهام" ، أو بالإمعان فى معاندة تيار التاريخ الجارى ، والسير وراء الزاعقين بهتاف "إسرائيل الكبرى" ، أو ما يعرف باليمين الإسرائيلى الأكثر تطرفا ، وجلب ما يسمى المعارضة الإسرائيلية وراء اليمين الموصوف ، وهو ما يفسر السلوك المزدوج من جانب "لابيد" و"بينيت" و"جانتس" و"هرتزوج" وبقايا حزب العمل المؤسس للكيان ، فهم يصوتون مع حكومة التطرف فى قرارات التوسع الاستيطانى ، والانتقام من الفلسطينيين وأسراهم، ثم يدخلون معها بنزاع فى الوقت نفسه، ليس على إجرامها وعدوانيتها طبعا، بل على نصيب من الكعكة الصهيونية الداخلية المنشقة ، ورفع شعارات الخوف على مصير "إسرائيل" ، وتفويض مسيرة ما يسمى "الديمقراطية الإسرائيلية" ، بينما يصدمهم "نتنياهو"، ويتهمهم بالعداء للديمقراطية والتصويت الشعبى ، ويحذر من إقدامهم على تدبير عمليات لاغتياله ، ويدعوهم لحوار بغير شروط ، لا يجد استجابة ظاهرة ، وربما لا يهتم "بيبى" ، لثقته فى الفوز بتصويت "الكنيست" بالقراءة الثانية والثالثة لما يسمى "قانون الإصلاح القضائى" ، الذى يستنقذ به رأسه وعتاة البلطجة فى حكومته .

والمحصلة الإجمالية ، أن تقلصات الكيان الإسرائيلى الداخلية تبدو ماضية إلى تفاقم أكيد ، وأن وهم "الديمقراطية الإسرائيلية" ذاهب إلى انكشاف مضاف ، ليس لخلاف على قانون عابر ، بل لمخاوف غريزية تجتاح الكيان وصهاينته ، وضعف الثقة بسلامة واستقرار مؤسسات كيان ، هو نفسه صار مهددا فى بقائه ، بأثر من صحوة الشعب الفلسطينى المتكاثر فوق أرضه ، وعلى نحو يعيد السيرة إلى أولها ، حين كان حضور الشعب الفلسطينى غالبا ، وها هى الصورة ذاتها تعود فى إطراد ، ليس كوجود ساكن يسلم بأقدر الاحتلال وقوانينه ، بل كوجود حى مقاوم ويتحدى ، تضاعفت خبراته بنقاط قوة ونواحى ضعف عدوه المغتصب ، ومستعد للتضحية إلى آخر المدى ، فالحق لا يسقط بالتقادم ، والأوهام لا تبنى حقائق قابلة للاستقرار والدوام ، والغاصبون لن ينعموا أبدا بالأمن ، والديمقراطية لا تقوم فى كيان فصل عنصرى قاتل إرهابى بطبعه ، وإصلاح التاريخ أولى من إصلاح قضاء كذوب ، لا فارق فى موازين الحق بين إصلاحه وإفساده .
[email protected]

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة