أسامة عجاج
أسامة عجاج


أسامة عجاج يكتب: وا قدساه

أسامة عجاج

الخميس، 02 مارس 2023 - 06:10 م

دفع الشهيد ياسر عرفات حياته، ثمنًا لرفضه التنازل عن القدس، فى مباحثات كامب ديفيد عام ٢٠٠٠، يومها تم اتخاذ قرار باغتياله على نار هادئة، وانتظروا خليفته (أبو مازن)، فكانت مقولته (إنها ليست للبيع)

أسباب عديدة دفعتنى للكتابة هذا الشهر فى قضية القدس، ذكرى الإسراء والمعراج، ومؤتمر دعم القدس، الذى شهدته القاهرة فى مقر الجامعة العربية، والاقتحامات التى يقوم بها مسئولون فى الحكومة للمسجد، أبرزهم ايتمار بن غفير للمسجد، والمخاوف من أن تستكمل إسرائيل هذا العام، مشروعها (القدس الكبري) فى استحواذ غير مسبوق على مدينة استثنائية بكل المقاييس، فهى أرض الأنبياء، عاش عليها منهم سيدنا إبراهيم، وإسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط ولوط، وصالح وزكريا وعيسى عليهم السلام، وزارها أفضل الخلق سيدنا محمد ليلة الإسراء والمعراج، ومع ذلك تسعى إسرائيل إلى الاستيلاء على القدس كاملة، ووصفها بأنها عاصمة أبدية لإسرائيل، مما يعنى كما يقول السياسي الفلسطيني الشهير سرى نسيبة فى كتابه المهم: (حول مطالبة إسرائيل بالاعتراف بالدولة اليهودية) تجاهل تام لحقيقة أن القدس، مدينة مقدسة بالنسبة لـ ٢,٢ مليار مسيحي، و١,٦ مليار مسلم، كما هى بالنسبة لـ ١٥ إلى ٢٠ مليون يهودى حول العالم، وبعبارة أخرى فإن الاعتراف يعنى تمييز الديانة اليهودية، وتشريفها على حساب الديانتين المسيحية والإسلامية، ويشكل اتباعهما ٥٥ بالمائة من سكان العالم.

تطرف وعنصرية

ولعل الوقائع تكشف عن الوزير ايتمار غفير الذى يحاول إشعال نار الصراع الدينى ليس نبتة شيطانية، أو استثناء، حيث رصدت إحدى الدراسات بالتفصيل، وجود ٦٤ منظمة وجمعية إسرائيلية متطرفة تستهدف القدس، ومنها إحياء الهيكل وهى الأكثر تطرفًا ويتزعمها الحاخام هليل وايز، وتمثل الإطار العام لمعظم المنظمات المعنية، بما يدعونه (جبل الهيكل)، وعلى نفس المستوى هناك منظمة (حراس الهيكل)، والتى تأسست عام ١٩٨٣ وخرج من عباءتها تنظيمات فرعية ومنها معهد الهيكل، والمنظمة تتلقى دعمًا حكوميًا وبعض المنظمات الصهيونية القومية، واشتهر مؤسسها يسرائيل ارييل بفتاويه التى تبرر تدمير منازل الفلسطينيين، وإبادتهم وتصفية وجودهم، هناك أيضا (الحركة من أجل إنشاء الهيكل) وأحباء الهيكل، وأبناء الهيكل، ومدرسة الفكرة اليهودية، وحركة كاخ (عصبة الدفاع اليهودية)، والجميع يدعون علنًا إلى هدم المسجد الأقصي، وطرد جميع المسلمين مما يطلقون عليها، (أرض إسرائيل).

استهداف مستمر

تحرص إسرائيل على تنفيذ خطتها فى تهويد المدينة المقدسة وإنهاء أى ملامح للوجود العربى والإسلامى والمسيحى لها، وقد شهدت السنوات العشر الأخيرة وبأساليب مختلفة، لتحقيق هذا الهدف، ومنها تعريف المسجد الأقصى على أنه جبل الهيكل ماعدا القبلى منه، فى مخالفة صريحة لتقرير لجنة حائط البراق والتى شكلتها عصبة الأمم فى يناير ١٩٣٠، للنظر فى الصراع بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، حول حائط البراق، والذى يشكل جزءًا من الحائط الغربى للحرم الشريف بالقدس، وتألفت من ثلاثة أعضاء من السويد وسويسرا وإندونيسيا، واستمعت إلى حوالى ٥٢ شاهدًا من الجانبين، وحصلت على ٦١ وثيقة، وانتهت بعد عمل استمر عامًا كاملا، من وضع تقريرها الذى وافقت عليه حكومة الانتداب البريطانية، وعصبة الأمم، لتؤكد حق الشعب الفلسطينى فى حائط البراق، وملكية المسلمين فقط فى الحائط باعتباره جزءًا أساسيًا من الحرم الشريف، وفى السنوات الأخيرة زادت وتيرة اقتحام المتطرفين من اليوم ١٢ ضعفًا من خمسة آلاف عام ٢٠١٢، إلى حوالى ٦٠ ألفًا العام الماضي، مع فرض وإجبار صلاة اليهود فى المنطقة منذ عام ٢٠١٧.

ومن بين خطط إسرائيل استهداف تراث وهوية البلدة القديمة الأصلية والتاريخية، باستمرار الحفر وبناء الأنفاق وبناء الكنس فى ساحة البراق والحائط الغربى للمسجد، حيث استحدثت أكثر من ٢٠ مكانًا للصلاة جديدة، وحفر وتدمير وتهويد خفى فى القصور الأموية، وعلى سور الأقصى الجنوبي، والقيام بحفريات ضخمة أسفل الحى الإسلامي، وشارع الواد من مدخل مغارة سليمان، ومصادرة عشرات البيوت والعقارات، وتهويد كل ما تحت الأرض وإقامة أنفاق ضخمة من عين سلوان إلى سور الأقصي، ونتج عنها عمليات إبعاد وتصدع منازل وإصدار أوامر هدم وإخلاء، مع تهويد محيط البلدة القديمة وأسوارها وإعلان البلدة كحديقة تلمودية، والتخطيط لمشروع القطار الخفيف والقطار الهوائى وزراعة أكثر من ٦ آلاف قبر مزيف، فى سلوان وراس العمود.

استهداف الكنائس

ولا تتوقف الانتهاكات على المناطق الإسلامية، بل تستهدف أيضا الكنائس والمقدسات المسيحية، حيث هناك رصد لحوالى ٧٠ اعتداء على كنائس القدس منذ عام ٢٠٠٨، وحتى هذا العام، الذى شهد وفقًا للجنة العليا لمتابعة شئون الكنائس فى فلسطين، أنه فى مطلع هذا العام، تعرضت الكنائس والمجتمع المسيحى لخمسة اعتداءات مختلفة، من قبل المستوطنين، آخرها اقتحام كنيسة حبس المسيح، وتكسير تمثال تاريخى للسيد المسيح، مع الاعتداء الجسدى واللفظى على رهبان الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية، فى محيط كنيسة القيامة، مع محاولة اقتحامها، واعتلاء أسوارها لإزالة علم الكنيسة، كما تعرضت مقبرة تابعة للمطرانية الإنجيلية الأسقفية، لاعتداءات وتكسير شواهد القبور، واستيلاء قوات الاحتلال على دير مار يوحنا المعمدان، والمجاورة لكنيسة القيامة لتحويلها إلى بؤر استيطانية، وتجميد وليس إلغاء قرار ٢٠١٧، بالسيطرة على أملاك الكنائس غير المسقوفة، وإعاقة الوصول للكنائس، بما فيها القيامة، ومضايقة الرهبان بسحب الفيز والهويات، ومنعهم من ممارسة عملهم، وخلال زيارة الرئيس الأمريكى الأخيرة إلى بيت لحم فى يوليو الماضي، سلم بطريرك المدينة كيريوس ثيوفيلوس نيابة عن كافة بطاركة ورؤساء الكنائس فى القدس رسالة، تضمنت مطالب بتوفير الحماية للكنائس، ووقف كافة أشكال الضغوط الممارسة عليها.

ولعل آخر جرائم إسرائيل، الموافقة فى منتصف الشهر الماضي على بناء ١٠ آلاف وحدة سكنية، وإنشاء تسع مستوطنات جديدة، والرقم لم يأت اعتباطًا، بل هو نفس عدد قتلى العملية الفلسطينية فى القدس التى سقط خلالها تسعة إسرائيليين، تنفيذًا لما قاله ايتمار بن غفير، (مقابل كل قتيل ستقام مستوطنة فى القدس والضفة).

شهيد القدس

ولا تدرك إسرائيل أن أحدًا مهما علا شأنه، أو زادت قيمته، قادر على أن يتنازل بأى صورة من الصورة عن القدس، لعل الشهيد ياسر عرفات هو الأبرز من بين الآلاف الذين دفعوا حياتهم ثمنًا للدفاع عن القدس، هذا ما كشفته أسرار مباحثات كامب ديفيد، والتى دعا لها الرئيس الأسبق بيل كلينتون فى يوليو ٢٠٠٠، بمشاركته ومعه إيهود باراك رئيس وزراء إسرائيل فى ذلك الوقت، ففى الجلسة العاصفة التى شهدت المواجهة الأعنف بين أبو عمار وكلينتون يوم ٢٣ يوليو، طلب أبو عمار من كبير المفاوضين صائب عريقات، ترجمة ما يقوله كلينتون، رغم إجادته للإنجليزية، وكان سبب ذلك، كسب قليل من الوقت لتجهيز الرد، كلينتون حاول فى البداية إغراءه بالمديح، قائلًا: (أعرف عنك أنك قائد شجاع ستأخذ شعبك، إلى استقلال الدولة الفلسطينية على حدود ٦٧، وعاصمتها القدس الشرقية).

(وأطلب منك بشجاعتك وإيمانك وتدينك، أن تعترف أمام العالم وتقول: إن هناك هيكل سليمان موجود تحت الحرم القدسي)، ومع مفاجأة الطلب لم ينتظر أبو عمار الترجمة، ورد مباشرة (حضرة الرئيس هل تؤمن بأن هيكل سليمان تحت الحرم؟) فرد كلينتون (نعم أنا أؤمن بذلك)، فرد عرفات (صدق أو لا تصدق لهم أكثر من ثلاثين عامًا من الحفر، ولم يجدوا حجرًا واحدًا)، وبعدها بدأت التهديدات العلنية من كلينتون، فلم يهتز أبو عمار، ورد ( لن يغفر لى مليار مسلم إذا تخليت عن السيادة الكاملة عن القدس الشرقية، ولا أملك تفويضًا لذلك)، عندها استمرت تهديدات كلينتون (أنت تقود شعبك وشعوب المنطقة إلى كارثة، أنت على وشك فقدان صداقتي) فرد عرفات (حضرة الرئيس سيأتى يوم خلال السنوات القادمة، من سيرفع علم فلسطين على أسوار القدس، ومساجد وكناس المدينة). وحاول عرفات الاستقواء بكلٍ من الرئيس الراحل حسنى مبارك، وملك الأردن الملك عبدالله، ضد موقف كلينتون، الذى سعى هو الآخر إلى دفعهما، لممارستهما للضغوط على أبو عمار، فكانت الإجابة التى تم إبلاغها إلى كلينتون، أنهما سيدعمان الشعب الفلسطيني، ولا يمكن لأحد أن يتنازل عن القدس، يومها قال صائب عريقات: (عندما جلست لأكتب محضر الاجتماع بكيت، فقد استشعرت بأن قرار إزاحة عرفات قد تم اتخاذه، فى أعقاب تلك الجلسة)، وكانت فرصة عرفات الأخيرة، فى مباحثات طابا قبل أيام من ترك كلينتون للبيت الأبيض فى يناير ٢٠٠١، وعندما فشلت كسابقاتها، بدأ تنفيذ قرار اغتيال الشهيد أبو عمار على نار هادئة، والذى تم فى نوفمبر ٢٠٠٤، توقعت إسرائيل تغيير المواقف مع خليفة أبو عمار، فى أن يكون أقل تشددًا أو أكثر ليونة، فكان محمود عباس أبو مازن أحد قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، على نفس الصلابة، وظل الموقف على حاله، حيث لم يترك مناسبة أو منبرًا سوى بالإشارة إلى (أن القدس ليست للبيع، وحقوق الشعب الفلسطينى ليست قابلة للمساومة).

غربة  الفلسطينيين

المخاطر تشتد والمخاوف تزيد، ولعل هذا العام هو الأخطر بالنسبة للقدس، فوفقًا لما جاء على لسان مدير عام معهد الأبحاث التطبيقية فى القدس الدكتور جاد إسحق، فإن إسرائيل بدأت فى وضع اللبنات الواضحة لإقامة القدس الكبرى العام الماضي، التى تهدف إلى حسم جغرافيا المدينة لصالح اليهود، بإضافة أربع كتل استيطانية كبيرة، وإقرار عدة مشاريع مما سيؤدى إلى خفض نسبة الفلسطينيين فى المدينة من ٣٧ إلى ٢١ بالمائة، وخلال العام الحالى سيصبح الفلسطينيون أغرابًا فى القدس، مع تنفيذ إضافة أكثر من أربعة آلاف وحدة سكنية وإقرار بناء تسعة آلاف وحدة جديدة.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة