د. علاء الجرايحي 
د. علاء الجرايحي 


بقلم د. علاء الجرايحي: تحرَّروا من عبودية التكنولوجيا

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 02 مارس 2023 - 11:34 م

العجب ليس فى البرودة أو الجفوة بين الناس، أو حتى صمت الليل وظُلمته، بل إن برد الشتاء مُتقلِّبٌ مُضطرب، فتارةً تجده مليئًا بالسكون، وأخرى بالصهب وغزارة الأحداث، ففى الشتاء يعلو الأنين وتبرد الأطراف، ويحل السكون الليلى بالمنزل، ويكون التقارب للأهل، تتجمَّد أطرافنا من قلة الدموية والحركة فيه، نشعر بالبرودة لبُعدنا عن دفء الأسرة ولمتنا وتقرُّبنا إلى بعضنا..

عوامل المناخ أثَّرت على العالم كله، والخلافات الدولية أثَّرت فينا وعلينا، ومتابعة الأحداث عن كَثبٍ أتلفت عقولنا لتضاربها الكامل فى كل شىءٍ، ففى الشتاء نبعد عن اللمة الحلوة التى تُفرِّغ طاقاتنا السلبية، ونميل إلى الوحدة الطارئة بفضل التكنولوجيا الحديثة، فنتَّجه إلى أجهزتنا الشخصية ومتابعة كل شىءٍ فى هذا العالم، وهى الوقائع التى تُؤثِّر فينا دومًا سواء كنا نعلم صحة المنقول إلينا منها من عدمه، فأصبح الكثيرون متابعين لصفحات السوشيال ميديا بشكلٍ دائم، وبألعاب التوحُّد التى تُبعدنا عن أسرتنا المُقيمة معنا فى المنزل، فجعلت البُعد يزداد بيننا أكثر فأكثر، حتى أصبح هذا الشىء الغريب الدخيل إلى حياتنا يُؤثِّر علينا بشكلٍ دائم، ويُؤثِّر فينا سلبًا وإيجابًا، وأصبحت الغُربة تُحيط بنا دون إدراك ٍ، والوحدة شعورٌ دائم بلا انتهاء، رغم وجود الجميع حولنا، وضرر العقول رغم امتلاء العالم بالتقنيات المفيدة وسُبل التقدُّم النافعة، واختلال الثقة فى الآخرين برغم المحاولات الدائمة لمنحها لنا وعدم الرؤية الحقيقية لكثيرٍ من الأنشطة والأعمال الموجودة لدينا، فهل أصبحنا نعيش فى العالم الافتراضى دون أن نُدرك، وتركنا العالم الحقيقى رغم معيشتنا فيه بالفعل؟

إننا بالفعل فى عصر التقدُّم التكنولوجى والتواصل الاجتماعى والعالم المُضىء، نعيش مع هذه الفيروسات فى غرفة واحدة، وبات العقل شاردًا وسط زحام وروايات العالم الافتراضى التى جعلتنا نميل إلى العُزلة والابتعاد عن الواقع، ونشعر ببرودة الأطراف والسكون الليلى والحزن الدائم والمرض المتوالى، لضعف أجهزتنا المناعية التى انهارت بسبب وسائط المحمول والحاسوب والأدوات المُستحدثة للترفيه والتسلية من الألعاب والبرامج، وزهو الإضاءة والأشعة المُنبثقة عنها، إنها لنوعٌ جديد من الفيروسات التى تمكَّنت من كل حواسنا وأعضائنا دون أن نشعر، فهى تتقرَّب إلينا وتتمحوَّر فى أجسادنا وتتطوَّر بداخلنا وتنمو نموًا سريعًا، إلى أن تتمكَّن وتفعل بنا ما تشاء وكما يحلو لها، وهى الفيروسات نفسها التى دمَّرت وتُدمِّر العلاقات الحميمية بين الناس، ونزعت ومازالت تنزع الثقة بين الأهل والأصدقاء، وخلقت وتخلق الاكتئاب، إنها سكنت بعمقٍ بدواخلنا، ومكافحتها أضحت صعبةً ومُستحيلةً، لأننا لا يُمكننا مُقاومتها أو السيطرة عليها، كونها فيروسات صُنعت وتخلَّقت للإدمان والموت، وإدمانها أصعب من تعاطى الممنوعات الأخرى التى يتعاطاها البعض، لأنها أسرع ما يتلف العقل ويذهب بالحواس الإنسانية، وينزع فضيلة الثقة، ويُمرض الجسد ويفقدنا الأمان وراحة البال.

حاولت مقاومة هذه الفيروسات منذ فترة، فوجدت بعض المفاهيم لدىَّ عن الحياة قد تغيَّرت، فأصبحت أكتب بعدما كانت يدى مربوطةً مغلولةً، وعقلى عالقًا وشاردًا فى التفكير، رأيتنى بدأت أُفكِّر من جديدٍ بعدما تراجع تفكيرى لمراحل طفولية، وأصبحت أثق بشعورى وبحميمية أهلى وجيرانى وأصدقائى، خرجت من جُدران الوحدة التى ظللت لفترةٍ ليست بالقصيرة أميل إليها وحبيسًا فيها، فخاصمت العُزلة، وعُدتُ أثق بقدراتى وإنسانيتى بعدما أثَّرت عليها التكنولوجيا كثيرًا وأحالت نفسيتى إلى رحلة بعالم الاكتئاب، وها أنا ذا أمسك بقلمى مرارًا وتكرارًا؛ لأُحرِّر يدى لإعداد الخُطط العملية، ووضع منظورٍ مختلف للتقدُّم بعملى وعلاقاتى، وانفرط عقد لسانى بعد أن كان مُلجَّما من أيادى وخيوط العالم الافتراضى الطابقة على فمى وقلبى بمقابض وسلاسل حديدية، لقد أصبحت أثق بأن الله دائمًا وأبدًا معنا بعدما تقرَّبت إليه أكثر، وأصبح لسانى دائمًا رطبًا بذكره، والحُب يشملنى ويُحيطنى من الجميع، وأشعرر به دائمًا فى عينى كل مَنْ يُقابلنى، نقيضًا لإحساسى السابق، ناهيك عن عدم الإدراك وتأثُّر حواسى ومشاعرى لفترة طويله.

هناك أسئلة تبحث عن إجابات تجوب فى عقلى؛ منها: مَنْ خلق هذه الفيروسات وما أهدافه منها؟! والطرق الكفيلة لمواجهتها؟ وهل أهداف خَلق هذه الفيروسات تطوَّرت بتطورها مع مرور الزمن أم أنها مُعدَّة من البداية وموضوعة سلفًا فى باطنها؟.. إنها فيروسات غريبة ومُتطوِّرة بشكلٍ غير معقول ومسبوق، تعيش معنا وتُدرك ما نفعله جيدًا ونُفكِّر فيه، حتى إننا نرى بأن أجهزتنا المحمولة تعرض لنا كل شىءٍ نتكَّلم فيه مع الآخرين، فإذا تحدَّثنا مثلًا عن مشاريع؛ أرى أمامى فى كل الصفحات أشياءً ومعلومات وتفاصيل عن مشاريع، وإذا ما تكلَّمت عن الملابس دون البحثِ عنها، أراها تظهر أمام عينى عبر وسائلها باستمرار، وإذا ذكرت من الأصدقاء وغيرهم، كل شىءٍ يخصهم يتم عرضه على بصرى من خلال صفحاتهم الشخصية على التواصل، أهل هذا طبيعى يا صديقى، فكل شىءٍ نتكلَّم عنه أو نتحاور فيه مع الآخرين يجعله هذا المحمول مُتاحًا وموجودًا أمامك فى لمح البصر لأهدافٍ تسويقيةٍ وترويجيةٍ لمن يدفع ثمن شراء أفكارك ومناقشاتك، ومَنْ يُريد أن يدفع لأجل أهدافٍ أخرى، والذى تُساعده إدارة هذا المحمول للوصول إليها مقابل الدفع، وما أخاف منه وأخشى هل هناك مَنْ يدفع لأجل شراء انتمائنا وكرامتنا وإرثنا وديننا دون أن نشعر؟.

دعونا نتحرَّر من هذه الفيروسات الخطيرة، ونجعلها شيئًا مُساعدًا لنا فى الحياة أو أداةً نستخدمها حين الضرورة، ولا نجعل تلك التكنولوجيا تتحكَّم فى مداركنا وعقولنا ومبادئنا ووطنيتنا وأصالتنا، ونرجع لأصولنا الكريمة التى تعلَّمناها من آبائنا فى الكتمان وحفظ الأسرار والعمل بجِدٍ، والكفاح المستمر فى العمل لأجل التقدُّم ولم شمل الأسرة، وتطوير الذات فى مهارات التواصل والعمل والعِلم، والحفاظ على أبنائنا من انغماسهم فى هذه التكنولوجيا؛ حتى لا يُدمنوها ويُعاق تقدُّمهم وتفكيرهم، وتذهب مبادئهم.. حفظ الله مصر وشعبها وأبنائها وقيادتها من كل شرٍ وفتن.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة