توماس جورجيسيان
توماس جورجيسيان


يوميات الاخبار

تحتضننا الذكريات .. وسيرة الحبايب

الأخبار

السبت، 18 مارس 2023 - 08:01 م

توماس جورجيسيان

ثم يوضح لهم ولنا جميعا «هذا هو البحر للواقف على البر، أما التجربة فبالمعاناة، والمخالفة واقتحام الأمواج»

الأحد
فى انتظار شقشقة الفجر
ما أحلاها من صحبة .. وما أجملها من سيرة!
كثيرا ما ألجأ لكاتبنا العظيم يحيى حقى وكتاباته فى جولاتى التأملية للدنيا وأهلها. وألجأ إليه لأنى أجد بين سطوره سكينة «أنشودة البساطة» ويقين «خليها على الله».وهذه المرة تستوقفنى هذه الكلمات له «..ألح عليهم أن يقفوا على الطريق، وأن يبدأوا الحركة، وأن يقبلوا بلا تهيب أو خوف أو ازدراء للنفس ـ على معانقة الحياة، حلوها ومرها»
هكذا كتب يحيى حقى منذ سنوات طويلة موجها كلامه للشباب خاصة المبدعين منهم ذاكرا لهم : «قبل أن تشغلوا أنفسكم غاية الشغل بتأليف قصصكم وتجويدها اشغلوها قبل ذلك بتحريك قدرة الذهن على الفهم، والروح على الاحساس» .. النصيحة والحكمة من الأب المعلم.
ويذكر حقى أيضا عنهم «لكى يرفضوا شيئا ينبغى أولا أن يملكوه، والتجارب ليست بغسيل هدوم الأسياد، بالقراءة فى حجرة مغلقة الأبواب والنوافذ، سيصبحون نسخة ميتة لأصل حى، فأصبح الكلام يخرج من أفواههم كشقشقة عصافير الببغاء ـ لم يسقط منه حرف، ولكن الحديث غير مفهوم»
ثم يوضح لهم ولنا جميعا «هذا هو البحر للواقف على البر، أما التجربة فبالمعاناة، والمخالفة واقتحام الأمواج».
ألم أقل لك من قبل ـ عزيزى القارئ ـ أن قراءة يحيى حقى تجربة حياة ومتعة وحكمة واستنارة واكتشاف للذات .. ومن خلالها للدنيا حولنا
ولكاتبنا الجميل سطور أقف أمامها وأتأملها بتمهل وأكرر تأملى لها لأنها تحتضن ذكرياتى وما كنت ومازلت أعيشها من لحظات روحية لا يمكن وصفها بكلمات مع «اصحى يا نايم» .. و«شقشقة الفجر»ـ
يذكرنا يحيى حقى بأنه “من فضائل رمضان أنه يتيح لعدد كبير من الصائمين أن يتذوقوا بعد السحور متعة فترة تفوتهم هم وأغلب الناس بقية العام لأنهم من حزب نوم الضحى، فيهم من يسهر اضطراراً لأنه من الكادحين، وفيهم من يسهر دلعاً لأنه من عشاق الليل أعداء الشمس. إنها شقشقة الفجر، يا له من جمال، أعجب كيف يغفل كثير من الناس عنها، ليس إلا عندها يمتلئ القلب بأقصى ما يقدر عليه من الإحساس بعظمة الخالق، بروعة الكون، بالتشوق للطهر، بالانبهار بالجمال».
هذا التنبيه لهذه المتعة العميقة المصاحبة لذلك الاحساس العظيم ذكره يحيى حقي. فى مقالة كتبها فى ديسمبر ١٩٦٧ بجريدة «التعاون». وتجدها فى كتابه «كناسة الدكان»
و«شقشقة الفجر» جاء يحيى حقى بسيرتها وهو يحكى عن عالم طفولته ومولد الفجر لديه بالذات.. تلك اللحظة الساحرة الجميلة من الزمان مع بداية اليوم وشروق الشمس .. مع دنياه وهو طفل عندما كانت وحسب توصيفه «دنيا المسموعات لا المرئيات» وبالتالى يتذكر منها صوت دقة نبوت الخفير بالليل وأيضا صوت البومة.
وفى الفجر كما يكتب «.. يصل الى سمعى صوت حلو مرتين، مرة لأنه بعيد، ومرة لأنه يملأ قلبى بالفرح والخشوع معا، انه صوت المؤذن: الله أكبر .. الله أكبر. حينئذ أحس بأننى فى حوزة رب قدير ورحيم معا، صوت المؤذن هو الذى يبدد عندى الظلام والمخاوف. وها هو ذا بشير آخر بالصبح، انه صوت الديك. يؤذن لى هو أيضا من على سطح قريب، كأنه يقول: اصح يا نايم»
رمضان كريم .. والله أكرم
الاثنين
سلام للحنان ..والحنين
جه فى بالي.. ماعرفش ليه؟ المهم جه فى بالي.. بغيابه وحضوره وحواراتنا وكتاباته وتساؤلاتى وتجلياته.. انه جمال الغيطانى أفتقده كثيرا.. وأتذكره كثيرا ..
أتذكر الغيطاني. هذا العاشق الولهان بالقاهرة ـ مكانا وزمانا وانسانا ومعمارا.. عشق عبر عنه بقلمه المبدع فى كتابات وروايات وحواديت لا تذكرنا فقط بعبق المكان.. بل بالأجواء الحميمة التى عشناها وعشقناها.. ولا نمل حتى هذه اللحظة من الحديث عنها.. وأتذكره بالطبع بما كتبه عن عبقرية المصرى عبر القرون .. وبالأسبوعية «أخبار الأدب» بما شكلته ورعته واعتنت به فى حياتنا الأدبية والثقافية ..
الغيطانى يذكرنى بكلماته: «مهما أوغل الإنسان فى الزمان، أو ابتعد فى المكان، فان فؤاده يعتصم الى الأبد، بتلك المواضع التى عرف فيها القلب رعيشات القلب الأولى، فاتحة الحب، وبداية مدرج العشق، والسعى إلى اكتمال انسانية الانسان».
ولا شك أن إنسانية الانسان وعبق المكان يمكن الإحساس بهما وبأهميتهما فى حياتنا عندما نهتم بالتفاصيل وعندما نعرف الناس عن قرب ونعطى كل اهتمامنا لهذه المعرفة وهذا التواصل الانساني. والأمر الأهم بعد ذلك أن نعطى قيمة لما عرفناه وتواصلنا معه..
الغيطانى الذى رحل عن عالمنا فى عام ٢٠١٥ يذكرنى من حين لآخر بنص بديع .. سلام ـ كتبه قبل رحيله بسنوات عدة وقبل اجراء عملية جراحية. فى هذا النص يقول:
«سلام لكل من سعى بالعلم والحكمة من أمحتب الى نجيب محفوظ وأبنائه وأحفاده، سلام لكل ما عرفته من أجوبة، ومعذرة لأننى لم أجتهد فى الحصول على ما يلبى أسئلتي، ولأن بعضها سيظل بدون جواب..»
ويضيف «.. سلام للأماكن الحميمة فى الوطن والتى ألوذ بكل منها فى غربتى عبر الذاكرة وأأتنس وأشجو وألتمس الأمان». «وسلام لهديل اليمام، وترنيمة القمري، والظلال قبل الأصول، لساعات العصاري، وغيوم الشتاء، والسدى واللحمة، والعجين عندما يفور، والنهر اذ يسري.. سلام».
ثم يوجه الغيطانى سلامه للنخيل فى بر مصر خاصة فى الصعيد» قائلا: «.. ما من شجرة تثير عندى الهيبة مثل النخيل، تمنحنى النخلة معنى الثبات، لم أر نخلة تميل مع الريح مهما كانت العاصفة. النخلة أصل المسلة والمسلة اشارة توحيد الى اللا مدى، الى لب الوجود، ومنها جاء البرج والمئذنة..»
و«.. سلام للحنان وللحنين وللرضا والسكينة، سلام لزرع البلاد والظلال التى تفرشها الأشجار والأغصان وكل مورق وارف، سلام للروح وللريحان وجنة نعيم».
ومع قراءة هذا النص «سلام» للغيطانى أجد نفسى أقول له أيضا.. «سلام للغيطاني». «سلام» لكتاباته وحواديته وتجلياته..
و«سلام» وأنا أرى صوره وأتذكر لقاءاتى وحواراتى معه..
الأربعاء
الحرف الشريف .. وسحر الكتابة
كتاب جديد للأستاذة سناء البيسى ظهر مؤخرا عنوانه «الحرف الشريف» وعدد صفحاته تزيد على ٦٠٠ صفحة. تبدأ الكتاب بهذه الكلمات «عندما يعانق القلم الأوراق تتفتح الأبواب التى أظنها موصدة، ويملى الإلهام الذى أظنه مسافرا، ويتسيد الموضوع الذى ظننته غائما، ويحضر الغائب ليقيم، فيقيم الحرف ويقعده…» ومعها تبدأ عشرات من رحلات وجولات ومئات من حواديت سناء البيسى الشيقة والممتعة عن مصر وأهلها الكرام وكبار المبدعين فيها وعن ارث مصر الفكرى والثقافى والفنى وعن أصحاب الأقلام والمدارس الصحفية وعن الكاتبات الرائدات .. نعم نلتقى بمئات الأسماء ونتعرف على حواديتهم وذكرياتهم ..
سناء البيسى هى أستاذة التفاصيل و«تشبيك» الأسماء والأحداث و«تضفير» الذكريات والأحلام. ويجب أن اعترف هنا ـ أنا نفسى «أموت وأفهم» (بالمناسبة لها كتاب بهذا الاسم) كيف أو ازاى بتطبخ هذه الطبخة فى الكتابة. أكلة لذيذة ودسمة .. وطعمها يجنن ويفضل فى البال. وهى ترسم بورتريهات بالكلمات وتشرح عقليات وتعرى نفسيات بروح «بنت البلد» وقلم الأستاذة.. وأسطى أو معلم كتابة. يعنى بالتعبير الدارج «ممكن تطبطب عليك ايوه» ولكن كمان «ممكن تديك كلمتين حلوين علشان تفوق» وكل هذا بمنتهى الشياكة .. وحنية وابتسامة وكلمة حلوة.
ولا شك أن تجربة سناء البيسى مع اصدار ورئاسة تحرير المجلة الأسبوعية «نصف الدنيا» من ٣٣ سنة دخلت التاريخ ويجب أن تدرس كيف استطاعت سناء بقيادتها لفرقة صحفية مميزة أن تحول «نصف الدنيا» إلى بيت و «غرفة معيشة» و«أودة سفرة» وأيضا شباك و بلكونة نطل منها على كل الدنيا.
أستاذة الكتابة الجميلة من خلال كتاباتها تذكرنا وتنبهنا دائما أن الصحافة غية ونفس (بفتح النون والفاء). وليست ـ كما يتصور ويتوهم البعض أحيانا ـ فقط ورق وحبر وتكنولوجيا حديثة ومبانى ضخمة وألقابا كبيرة ومرتبات عالية ودراسات جدوى لـ«تلميع الصور» و«تمييع المواقف». تجيبها كده تجيبها كده هى كده.
سناء البيسى وهى تقدم بورتريهات ـ بالتفاصيل الحميمة طبعا لشخصيات عرفتهم وعايشتهم كتبت: «ليس تأريخا وإنما تحليق مع باقة جمعتها من ثمار شجرة الإنسانية لأتذوقها على مهل، وأحلق فى أجوائها بالخشوع والمعايشة والصداقة والحب والتأمل والتأثر.. وأنصت لها وأستزيد.. فغرامى وقضيتى وحوار عمرى ونبض قلمى ونهج بحثى هو سيرة الحبايب»
نعم، إنها سيرة الحبايب .. نحن إليها ونحلى بها أيامنا ..

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة