محمد الشماع
محمد الشماع


يوميات الأخبار

برنس الصحافة

محمد الشماع

الثلاثاء، 04 أبريل 2023 - 07:09 م

«واكتشف الجميع بعد ذلك أن الحق فى جانبه عندما انكشفت المأساة وفقد الملايين من الغلابة مدخراتهم»

بعد أيام تحل الذكرى الخامسة والتسعون لميلاد «برنس» الصحافة المصرية والعربية الكاتب الكبير الأستاذ سعيد سنبل، كان صاحب قلم وفكر، شديد الاهتمام بالقضايا الوطنية وحب الوطن، وكان مشغولا بقضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وترك بصمات واضحة فى الصحافة المصرية، بل والإعلام المصرى الحديث.

أنشأ الراحل الكبير ما يعرف بالصحافة المتخصصة، وأسس أول قسم للصحافة الاقتصادية فى «أخبار اليوم»  فى عام 1957، وقدم الصحافة الرياضية المتخصصة فى العام 1989 وأصدر «أخبار الرياضة» كفن صحفى جديد فى الشكل والمضمون وحققت الجريدة نجاحاً مدوياً واقتربت أرقام التوزيع من المليون نسخة أسبوعياً.

كما غير فى شكل جريدة «الأخبار» من ناحية القطع مما وفر فى النفقات وأعطى الجريدة شكلاً مميزاً حتى الآن، كما ساعد على قراءتها فى وسائل النقل العام كما يحدث فى أوروبا وأمريكا!
وفى الموضوعات والقصة الصحفية والخبرية أحدث تغييرا كبيرا وتطويرا فى الكتابة. كما أعطى الصورة الإنسانية اهتماماً أكبر عندما تولى رئاسة تحرير جريدتنا العريقة «الأخبار». كما كان أول من قدم البرامج الحوارية التليفزيونية المتخصصة فى التليفزيون المصرى وقدم حلقات تعتبر تراثا إعلاميا مهنيا وعلميا يصب فى صالح الوطن والمواطنين.

كنت محظوظا بالعمل معه عندما تولى رئاسة تحرير «الأخبار» كذلك عندما تولى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة «أخبار اليوم» ولى معه العديد من الذكريات والمواقف الإنسانية والصحفية المهنية التى لا تنسى وكنا فى أسرة تحرير الأخبار شهودا عليها بل ومشاركين فيها واستمتعنا بنجاحاتها العظيمة.

برنس الصحافة المصرية

الأستاذ سعيد سنبل «البرنس» وهو اللقب الذى أطلقه عليه زملاؤه وأساتذة الصحافة لأنه كان دمث الخلق قام بأشهر حملات صحفية فى فترة الثمانينيات ومن بينها حملته ضد شركات توظيف الأموال التى ظهرت فجأة على سطح المجتمع وقامت بأكبر عملية نصب على المجتمع والدولة فى مصر. كانت أجمل عملية نصب فى مصر متدثرة بالدين وعندما أوجعتهم تحقيقات ومقالات سعيد سنبل اتهموه بأنه يقف ضدهم لأنه قبطى ليضيفوا على غريمهم غرماً طائفياً آخر، ولكن هذه الاتهامات لم تجعل سعيد سنبل يتراجع واكتشف الجميع بعد ذلك أن الحق كان فى جانبه عندما انكشفت المأساة وفقد ملايين الغلابة مدخراتهم، مما دفع الدولة لأن تتدخل ولكن بعد فوات الأوان!

وخلال رئاسة الأستاذ سعيد سنبل للتحريرشجع زملاءه وتلاميذه على الاستمرار فى الحملات الصحفية المؤثرة التى تخدم المجتمع والوطن، وكان راعيا لهم، يوفر لهم الإمكانيات اللوجيستية والمادية والضرورية، بما فيها إمكانيات السفر للخارج والاتصالات، مثلما حدث مع الكاتب الكبير الأستاذ وجيه أبو ذكرى الذى سافر إلى كولومبيا ليبدأ حملته عن المخدرات فى مصر من ذلك البلد البعيد المشهور بعصابات تجارة المخدرات والسلاح فى كولومبيا، والتقى مع زعماء هذه العصابات وأجرى حوارات مثيرة معهم. وتلك الحملة التى أحدثت دوياً كبيراً فى مصر ومنطقة الشرق الأوسط عن غرائب تجارة وتعاطى المخدرات.

ومن أشهر الحملات الصحفية التى قام بها برنس الصحافة المصرية والعربية كانت مع عدم مشروعية فرض ضريبة التركات ورسم الأيلولة على تركة المورث قبل نقلها للوريث، والتى تمثل تدخلا صارخا من الحكومة فى ميراث جزء كبير من ثروات المورث مع الورثة الشرعيين! وفى هذه الحملة أقر علماء الدين بصحة موقف سعيد سنبل وعدم مشروعية أو منطقية مشاركة الحكومة ذوى المتوفى فى الميراث.

وقد كانت هذه الضريبة غير المنطقية سبباً فى الكثير من المآسى. حيث كان بعض الأباء يلجأون إلى نقل ملكية عقاراتهم وثرواتهم إلى الأبناء وأحيانا إلى الورثة من الأقارب فى حياتهم ـ للتهرب من فرض هذه الضريبة ـ ثم يتعرضون إلى العقوق بعد ذلك!!

لقد خلق سعيد سنبل أرضية واسعة للقبول بحملته الناجحة بين المواطنين والبرلمان والحكومة كان من نتيجتها إلغاء هذه الضريبة غير المنطقية وغير العادلة لأن الثروة عندما تنقل داخل الأسرة من يد إلى يد جديدة تستمر خاضعة لأنواع الضرائب الأخرى وكانت نتيجة هذه الحملة الناجحة هى حرمان الحكومة من ميراث المواطنين.

وهناك واقعة غريبة ظهرت أثناء الحملة وهى أن أحد كبار رجال الأعمال  فى مصر كان يملك أشهر مصانع ومحلات بيع الحلوى وكافتيريات فى ضاحية مصر الجديدة ووسط البلد تحمل اسمه أراد أن يتهرب من تسديد ضرائب التركات ورسم الأيلولة فى حالة وفاته، فقام ببيع كل ممتلكاته إلى ابنه لكى لا يقوم الابن بتسديد الضريبة.. لكن القدر أقوى منه فمات الابن فى حادث سيارة وعاش الأب وعادت إليه ثروته التى أراد أن يورثها لابنه فى حياته!

وفاة زوج أم كلثوم

فى يوم وفاة الدكتور حسن الحفناوى الطبيب المعروف نشر بالصفحة الأولى خبر «وفاة د.حسن الحفناوى زوج أم كلثوم» وبعد ظهور الطبعة الأولى تحدث أحد أفراد الأسرة طالبا حذف كلمة زوج أم كلثوم من الخبر وذلك من خلال مكالمة تليفونية تلقيتها منه مراعاة لشعور الزوجة الأولى للطبيب المتوفى فطلبت رأى الأستاذ سعيد فقال لى إن الخبر هو أن المتوفى زوج أم كلثوم ففهمت منه أن الخبر يستمر كما هو لأنه يتعلق بفنانة كبيرة بحجم أم كلثوم!

القبض على سائق الوزير

خبر آخر نشر بالصفحة الأولى بعنوان «القبض على سائق الوزير د.عبد الأحد جمال الدين» بعد صدور الطبعة الأولى تلقيت اتصالا من الوزير وكان ثائرا وهو يتحدث إلىّ قائلا: «هذا تشهير بشخصى يجب ألا يكون» وطلب رفع اسمه من الخبر لكننى أبقيت عليه كما هو تأكيدا لصحة الخبر وأن السائق ارتكب الخطأ معتمدا على أنه سائق الوزير!

المنح والقروض والدولار والجنيه

كان من أهم ما تعلمت من أستاذى سعيد سنبل هو الدقة فى كتابة الأرقام خاصة أن فترة الثمانينيات والتسعينيات كانت أعداد القروض والمنح لا تعد ولا تحصى حتى إن العديد من المنح كانت تقدم لمصر ولا يتم استخدامها فى الأغراض التى كانت مخصصة لها وتسقط وتعود من حيث أتت. وكانت أرقامها تكتب خطأ وبطريقة مبالغ فيها، فالمنحة تكتب قرضا والعكس صحيح والأرقام البسيطة، تصبح ملايين أو بالمليار الذى لم يكن مطروحا فى حينه والآلاف تصبح ملايين إلى جانب فوضى العملات وأنواعها فالجنيه تحول إلى دولار والدولار أصبح ين أو فرنك!
كان الأستاذ سعيد دقيقا جدا ومازلت أتذكره كلما كتبت رقما ماليا بالعملات الأجنبية أو قيمته أو ما يساويه بالجنيه المصرى، لكن المسألة حاليا أصبحت لا تعد ولا تحصى بل أصبحت عصية على الفهم!

ديكوبيه مبارك

من النوادر الطريفة، لكنها لم تكن طريفة فى وقتها حيث نشرت «الأخبار» صورة للرئيس السابق مبارك مفرغة من الخلفية.. «ديكوبيه» وهى طريقة معتادة للنشر تخف من المساحات السوداء وتتيح مساحات من البياض حول «الرأس» لتخفيف كتلة الموضوع ولكن نشر صورة للرئيس مبارك بهذا الشكل ـ الذى تبدو فيه رأس صاحب الصورة فقط ـ فيما يبدو أثار تشاؤم الرئيس مبارك، فما أن رآها فى الصباح الباكر حتى ثار وأيقظ الأستاذ سعيد سنبل من النوم، طالبا منه عدم نشر هذه الصورة أبداً!

لم يضعها الأستاذ سعيد خطأ لغيره ولم ينسب مسئولية نشر الصورة لغيره أو حاول إخلاء مسئوليته.. لكنه قال للرئيس إن هذا أسلوب معروف فى نشر الصور.. لكن الرئيس مبارك ظل ثائراً ومؤكداً على عدم تكرار نشر صور للرئيس بهذا الشكل!

وعندما وصل الأستاذ سعيد إلى الجريدة فى موعده الصباحى لم ينقل هذا التوتر الذى حدث إلى اجتماع مجلس التحرير، لكنه أصدر قراراً بمنع نشر صورة للرئيس مبارك بأسلوب «الديكوبيه»!
أهمية الصورة الإنسانية

أعطى الأستاذ سعيد اهتماماً خاصاً وتأكيداً على ضرورة اختيار الصور الإنسانية كما هو الحال فى الصحافة العالمية، وأتذكر أنه أشار علينا بإحدى الصحف الأمريكية وقد نشرت صورة على أربعة أعمدة فى صدر الصفحة الأولى لعملية إنقاذ قط صغير كان يقف على حافة إحدى شرفات البناية العالية بإحدى المدن الأمريكية، والتقطت صورة لرجال الأنقاذ وآلاتهم الرافعة العملاقة على ارتفاع شاهق وهم يحملون القط الذى أصبح نجم الصفحة الأولى وحديث الناس!

طائرة خاصة للبرنس

تعرض الأستاذ لأزمة قلبية حادة أثناء إحدى رحلاته الخارجية واستمرت رحلة العلاج فترة ليست قصيرة، وتطلب سفره للخارج على طائرة طبية مجهزة من القاهرة إلى لندن لإجراء الجراحة الدقيقة وتكلفة رحلة العلاج مبالغ ضخمة كانت الحكومة قد أعلنت تكفلها بالتكاليف، لكن الأستاذ «البرنس» سدد كامل النفقات على حسابه الشخصى. وكان عندما يسأل عنه أحد ليطمئن عليه كان يرد بصوته المريح: الحمدلله على الصحة والستر.

السيجار الوهمى!

وبعد تجرده من المناصب الرسمية أصبح كاتبا لعموده الصحفى الشهير «صباح الخير» بالصفحة الثالثة بجريدتنا العريقة وفى إحدى زياراتى له فى المكتب للإطمئنان على صحته دعانى للجلوس وأخذ يسألنى عن أحوالى والعمل والأسرة ومدى ارتياحى فى العمل مبديا استعداده لحل أية مشكلة.. ولمحت السيجار فى يده فسألته: يا ريس مش الدكتور منع سيادتك من التدخين.. طيب كده خطر على سيادتك.. فابتسم وهو يشير إلىّ بالسيجار قائلا: يا محمد أنا بعضعض فى السيجار ولا أدخن وأضعه بين أصابعى لكى أوهم نفسى أننى مازلت أدخن السيجار! وأخذ يشرح لى خطورة التدخين كما شرح لى أيضا كيفية عمل منظم ضربات القلب الذى تم زرعة فى صدرة.. وبالفعل كان السيجار سليما ولم يتم إشعاله من قبل!
الصديق وقت الضيق

أحلى وأصدق ما قاله الأستاذ سعيد سنبل هو أنه قد يكون لك معارف كثيرة وأقارب وأحباب وزملاء لكن الصديق هو من تجده إلى جوارك وقت الشدة يساعدك ويشد من أزرك ولا يحتاج منك أى شيء إلا أن تكون فى أحسن حال وهؤلاء من الصعب أن تجدهم لأنهم قليلون جداً.. فالصديق وقت الضيق حقاً!!


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة