أسامة عجاج
أسامة عجاج


يوميات الأخبار

أسامة عجاج يكتب: العُلا .. مغامرة ليلية فى «عروس الجبال»

أسامة عجاج

الخميس، 01 يونيو 2023 - 09:01 م

عدت من جديد لزيارة السعودية، بعد غياب أربع سنوات، كانت كفيلة لرصد حجم التطور على كافة الأصعدة فى المملكة، تدفعنا للقول بأننا أمام مشروع إعادة احياء دولة، نهضة اقتصادية، تغيير اجتماعي، تمكين للشباب والمرأة.
 

قليلة هى المرات طوال أربعين عاما التى خرجت فيها عن فكرة الالتزام الصارم، بالمهمة الصحفية التى أقوم بها فى زياتى الخارجية فى الدول العربية، والتى تستحوذ فى الأغلب على كل اهتمامى وتفكيري، رغم استمتاعى الشديد بأى أجندة تخرج عن طبيعة المهمة، وأتذكر أننى زرت المغرب ذات مرة لحضور مؤتمر، فأضاف المنظمون جولة فى مدن الصحراء المغربية، فأحسست بتوجس، هل أترك الدار البيضاء والرباط، إلى ذلك العالم المجهول الذى لا أعرفه؟ وتجولت خلال أيام فى مدن العيون والداخلة والسمارة وبوجدور، فكانت المتعة الخالصة، حيث تعرفت على مجتمع (بكر) مازالت تحتفظ باصالتها، رغم التطوير الذى تقوم به الحكومة، للنهوض بهذه المناطق العزيزة على المغاربة.

وقد تكرر الأمر خلال الأسبوع الماضي، حيث كان من المقرر العودة مباشرة، بعد يوم من انتهاء أعمال القمة العربية الـ ٣٢، التى استضافتها مدينة جده بالمملكة العربية السعودية، والتى استهلكت جهدا استثنائيا من المتابعة المستمرة، طوال ساعات النهار وجزءا من الليل، من اجتماعات ومشاورات واتصالات مع المصادر وكبار المسئولين، وفجأة قرر المسئولين فى وزارة الإعلام مد الزيارة يوما آخر، وتخصيصها لرحلة إلى منطقة العُلا السياحية، والتى برزت على الساحة، بعد أن استضافت أعمال أحد القمم الخليجية، واجتماع المصالحة بين قطر والدول الأربعة مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وأصبحت على أجندة زيارات كبار المسئولين للمملكة.

◄ بداية التجربة
وصدقا، لم أكن متحمسا فى البداية، ولكنى اكتشفت أننى أمام تجربة فريدة تستحق التسجيل، بعد أن قضيت ساعات طويلة فى تلك البقعة الساحرة، التى تشهد على ما وصلت إليه السعودية، من تطورات على أكثر من صعيد، بإشراف مباشر من الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودي، الذى نجح فى التخطيط لمملكة تعتمد على أجيال شابة، مع اتاحة فرصة أكبر للسعوديات، بتعليم على مستوى عال، تجيد العديد من اللغات.

البداية كانت من مطار جدة، من صالة الطيران الخاص، حيث كانت الرحلة التى ضمت إعلاميين ومسئولين عرب، على متن طائرة خاصة، واستغرقت أكثر من ساعتين، إلى مطار العُلا، وهو على أحدث مستوي، يستقبل رحلات دولية وداخلية، وقد دخل الخدمة منذ سنوات قليلة،- ومن الصدف السعيدة أن طاقم الضيافة كانوا مصريين- منطقة العلا ظلت مهملة على مدى عصور، لدرجة أن السعودية لم تتقدم سوى عام ٢٠٠٨ إلى لجنة التراث العالمى التابع لليونسكو، للموافقة على اعتماد موقع الحِجر أو مدائن صالح، ضمن قائمة التراث العالمي، وكان الموقع السعودى الأول الذى تم تسجيله عالميا، وسط حالة من الذهول من عظمة مقوماتها، من ممثلى ٢٢ دولة، هم من شاركوا فى الاجتماع، والعلا هى إحدى مناطق محافظة امارة المدينة المنورة، وتبعد عنها باتجاه الشمال ٣٠٠ كيلو متر، وتتمتع بموقع جغرافى تميزه عن غيرها،وتقع بين المدينة وتبوك وحائل، وتمتد مساحاتها إلى ٢٩ الف كيلو متر، وتتميز بتشكيلاتها الجبلية المتنوعة، وكثبانها الرملية الذهبية، بينما اجتمعت فى الوادى واحة مليئة بالنخيل، التى ترتوى بماء العلا العذب، المتدفق من عيونها الجوفيه وسط نسماته هواء الوادي، الذى يبهج النفس التواقة للراحة، وقد توقفنا فيها لبعض الوقت، فإذا نحن أمام جنة الله على الأرض، إمكانيات سياحية على أعلى مستوي، وتناولنا الغذاء فى أحد المطاعم الفاخرة، التى تقع فى مواجهة الواحة، مساحات الخضرة تعم المكان، مع أنواع النخيل والحدائق المحيطة، وينابيع المياه تجرى تحت أقدامنا.

◄ مستقبل واعد
تستحق العُلا الوصف الذى أطلق عليها، عروس الجبال، وعاصمة التاريخ،، بوضع متميز، كوجهه سياحية للراغبين فى خوض غمار مغامرة لا تنسى فى بيئة آمنة، ومساحات شاسعة الى جانب مناظر طبيعية، وتاريخ غنى وثقافة عميقة، التى تجتمع فى مكان واحد والمخطط لها، ويتم تجهيزها لاستقبال مليونى زائر، بحلول عام ٢٠٣٥ مع توفير ٣٨ ألف فرصة عمل، وتحقيق ١٢٠ مليار ريال كمبلغ تراكمى إجمالى الإسهام فى الناتج المحلى استمعنا من العاملين فى المنطقة من الشباب السعودى الواعد، بسعة اطلاعه وحديثه بالعديد من اللغات، وإيمانه برسالته فى الكشف عن الجهد الذى يشارك فيه، لاعادة احياء التاريخ، إلى شرح مفصل عن تاريخ المنطقة وبالتفاصيل وعن مخطط تطويرها ومشاريع وضعها على خريطة السياحة العالمية، وبعدها انطلقنا إلى موقع الحجر، أحد الأماكن التاريخية الاستراتيجية على طريق التجارة القديم، أو طريق البخور، الذى ربط بين جنوب الجزيرة العربية بشمالها، وبالمراكز الحضارية فى مصر والشام وبلاد الرافدين، وسكنه قوم لوط، ثم الانباط من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الثاني، وبالاضافة الى منطقة الحجر هناك جبل عكرة ودادن، أما العجائب الطبيعية، فابرزها جبل الفيل، ثم متاهات التكوينات الصخرية والكثبان الرملية، المنطقة بكر لم تمسسها أيدى البشر، لا بالإضافة ولا التعديل، وحتى عندما أبديت ملاحظة على قاعة كبيرة، قيل لنا إنها كانت مخصصة لاجتماعات كبار القوم، وظهر عمودان فى الجانبين، أنه تم ترميمها، اندهش من يقوم بالشرح، مستنكرا، فقلت له (إن التدخل بالترميم مع الحفاظ على تاريخية المكان ضرورة، ولا تقلل منه)، تجولنا فى المنطقة، فعلى جانبى الطريق، تناثرت غرف احد اهم فنادق المنطقة، التى تتواءم مع طبيعتها، فى وجود مساحات بينها، تسمح بمزيد من الخصوصية، حتى اثاثها تم إعداده بطريقة مختلفة، وتعطى السائح الغربى خصوصا، رحلة استثنائية تستقر فى ذاكرته.

◄ تجربة لا تنسي
وكان ليل العُلا قد أسدل ستائره على المكان، فكلما زادت عتمته، اضحت السماء كما لو كانت سجادة كونية، تم تطرزيها بالنجوم اللامعة، حيث بدأنا تجربة لا تنسي، وهى سياحة النجوم، الطريق للوصول للمكان مظلم إلا من أعمدة قصيرة مضيئة، تحدد لك خط سيرك بين الجبال، للوصول إلى منطقة العرض، الارض مفروشة بالسجاجيد، حيث الجلوس على الأرض، فى استرخاء تام، والاتكاء على مجموعة الارائك، وطلب منا الدليل والمرافق، اغلاق كل الموبايلات، او أى مصدر ضوء، ولم يبقى سوى سهم يستخدمه للاشارة الى عالم من المتعة، من مراقبة النجوم، ومن اشهر النجوم التى يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، نجم القطب، وسهيل والثريا والمرزوم، وقال لنا الشارح انه نجم الشعرى المذكور فى القرآن الكريم، ونجم الدبران ونجوم الجوزاء والعبوق وجميع النجوم التى عرفها العرب القدماء، ويصل عددها الى الف نجم، تم على اساسها تحديد مواسم السنة ومواسم الرياح ،ونضوج الثمار، هنا فقط تعرف التفسير العملى للايات الكريمة من صورة الغاشية، «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت»

هنا لاتسمع سوى صوت السكون، مع حالة صوفية من الراحة النفسية، والشعور بحلاوة الاية ١٦ من صورة السجده، (الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ}، هنا تدرك مدى ضآلة الانسان، وسط هذا الكون العظيم، والذى انحرف عن سبب وجوده على الارض، فراح يخرج عنها، التى تقتصر فقط على عبادة الله، وتعميرها، فعاث فيها فسادا، وصراع وحروب واستعلاء.

◄ إنها السياحة
إحياء منطقة العُلا جزء من مخطط كبير، لتنويع اقتصاد المملكة، وفق رؤية ٢٠٣٠، التى أعلنها الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودي، فى ٢٥ أبريل ٢٠١٦ بركائزها الثلاثة، مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، وطن طموح، وكان الاهتمام بالسياحة التى تم التخطيط منذ عام ٢٠١٩، لتكون احد روافد الناتج المحلى فى السعودية، بعد ان اقتصرت لسنوات على السياحة الدينية، باداء مناسك الحج، والعمرة،فتعددت تأشيرات الدخول الى المملكة، لمزيد من الزوار، فهى تتضمن تطوير الكثير من الوجهات السياحية، فى العديد من المناطق، وتضم كافة انواعها، البحرية والصحراوية والتاريخية، والتراثية، باشراف الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطنى، واصبحت المملكة الاسرع نموا بمعدلات وصلت إلى أكثر من ١٢٠ بالمائة، مقارنة ماقبل جانحة كورونا، وهى الأولى فى الاستثمار فى السياحة على مستوى العالم، حيث تم تخصيص ٥٥٠ مليار دولار، لخلق تلك الوجهات الجديدة،للوصول الى ١٠٠ مليون سائح سنويا، بحلول عام ٢٠٣٠، والأرقام تكشف انها استقبلت العام الماضي، حوالى ٩٣ مليون زيارة و٨ مليون، خلال الربع الاول من هذا العام ،منهم ٤ ملايين معتمر، وهناك حوالى ٤٢ ألف غرفة فندقية تحت الانشاء فى السعودية حاليا، مع توقعات بتجاوز ٧٠٠ الف عام ٢٠٣٠.

وكشف وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب، عن أن وزارته تستهدف تطوير القطاع، ورفع مساهمته بالناتج إلى المتوسط الدولي، وهو ١٠ بالمائة عام ٢٠٣٠، مما يعنى إضافة ما بين ٧٠ إلى ٨٠ مليار دولار، إلى إجمالى الناتج المحلى فى الاقتصاد السعودي، وقد وصلت فى بداية هذا العام إلى ٤ بالمائة، ما يتم فى المملكة، وفقا لما قاله الأمير محمد بن سلمان ولى العهد ذات مرة، (إن المملكة لم تسثمر سوى ١٠ بالمائة من إمكانياتها، وكل الخطط تتمحور حول القوى والإمكانيات الوطنية، دون استنساخ او تكرار لنموذج آخر فى العالم، ومن أقواله، أيضا لن نضيع ٣٠ عاما آخرين سنبدأ العمل)، وهو ما يتم تنفيذه على الأرض من خلال انفتاح على العالم، والعمل على وضع السعودية كواجهة لجذب الاستثمار العالمى وعدم الاكتفاء بالدور التقليدى المتعارف عليه طوال عقود، السعودية تتعامل مع مقاربة تقول ان المقدس فى المملكة هو مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهما معا ذات خصوصية، باعتبارها قبلة المسلمين، وخدمة الحجاج والمعتمرين شرف اختص الله به السعوديين، وتعمل على تطوير الاماكن المقدسة وزيادة استيعابها لملايين الراغبين فى الزيارة، اما مادون ذلك فهى مدن مثل كل مدن العالم، فى توفير الترفيه والمتعة لسكانها 
 وهكذا انتهت الرحلة، وبقيت ذكرياتها.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة