محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الاخبار

رجال المجد

محمد السيد عيد

الأحد، 04 يونيو 2023 - 08:27 م

يرتبط شهر يونيو بالنكسة، لكنى سأكسر القاعدة هذا العام، لأن هذا العام يوافق الذكرى الخمسين لانتصارات حرب أكتوبر، وسأكتب عن بعض الرجال المصريين العظماء، الذين لولاهم ما تحقق النصر.

■ باقى زكى يوسف
هذا هو صاحب الفكرة العبقرية التى جعلت خط بارليف بلا قيمة، وجعلته يتهاوى تحت أقدام الرجال خاضعاً وذليلاً.
■ اجتماع مهم
فى سبتمبر 1969 عقد اللواء سعد زغلول عبد الكريم، قائد الفرقة 19، مؤتمراً  لقادة الفرقة لمناقشة الأفكار التى يقترحونها للتغلب على الساتر الترابى عند العبور. شرح لهم الموضوع. بيَّن أن ارتفاع الساتر الترابى واحد وعشرون متراً، أى أنه بارتفاع عمارة من سبعة طوابق، وعرضه اثنا عشر متراً. إنه ليس مجرد جبل من تراب، بل هو سد حقيقي. به نقاط قوية للدفاع عنه وتوجيه الضربات نحونا. به مصاطب للدبابات وغيرها من الأسلحة الثقيلة. به حقول ألغام، وأسلاك شائكة. حتى إن الخبراء قالوا إن هذا الحاجز الترابى لا يمكن التغلب عليه إلا باستخدام قنبلة ذرية. طبعا هذا مستحيل. أولاً: لأننا لا نملك القنبلة الذرية، وثانياً: لأننا لا يمكننا الحصول عليها. وثالثاً: حتى لو حصلنا عليها فلا يمكننا استعمالها؛ لأنها ستسبب تلوثاً جسيماً يصيبنا بالضرر كما يصيب العدو.
طرح الحاضرون أفكارهم. سجلها سيادة اللواء باهتمام. رفع رئيس فرع النقل بالفرقة يده، كان ضابطاً برتبة مقدم مهندس، طلب الكلمة. قال اللواء سعد زغلول: تفضل.
 قال سيادة المقدم: إن كرم الله بلا حدود، لأنه جعل حل المشكلة تحت أقدامها.
قال اللواء: وضح كلامك.
- لقد كنت منتدباً فى السد العالي، وكنا نقوم بتجريف التراب والصخور هناك عن طريق ضغط المياه. لقد قمنا بتجريف جبال كاملة بهذه الطريقة. فلماذا لا نستخدم هذه الفكرة مع الساتر الترابي؟ إن قناة السويس تحت الساتر الترابى مباشرة، ولو وفرنا الطلمبات اللازمة فيمكننا فتح ثغرات فى السد الترابى فى وقت مثالي.
صمت اللواء لحظة. قال له: تقول إنكم جربتم هذه الطريقة فى السد العالي؟
- وحققنا نتائج عظيمة.
وقف اللواء سعد زغلول. أشار للحاضرين بانتهاء الاجتماع. طلب من هذا المقدم أن ينتظر قليلاً. مضى الجميع لأعمالهم عدا سيادة المقدم. أما اللواء سعد زغلول فقد ذهب إلى مكتبه. رفع سماعة التليفون التى توصله باللواء محمود جاد التهامي، نائب رئيس العمليات بالقوات المسلحة، قال له: عندى ضابط مهندس  فى الفرقة قدم لى فكرة مهمة بخصوص الساتر الترابى وأرى ضرورة عرضها على سيادتك.


- ما اسمه؟
- باقي.. باقى زكى يوسف.
- أعرفه. رجل جاد لا يهزل. هاته وتعال.
ذهب الاثنان لمقابلة نائب رئيس العمليات. شرح له المقدم باقى الفكرة. صمت الرجل قليلاً. قال له: انتظر منى تليفونا قريباً.
خلال اثنتى عشرة ساعة كانت الفكرة قد وصلت للزعيم جمال عبد الناصر. وطلب الزعيم حضور هذا المقدم.
■ قبل المقابلة
قبل أن نتحدث عن المقابلة سنتعرف على صاحب الفكرة.
-الاسم؟
- باقي.. باقى زكى يوسف
- تاريخ الميلاد؟
- 23 يوليو 1931
- الدراسة؟
- تخرج فى كلية الهندسة، قسم ميكانيكا، سنة 1954
- العمل؟
- انضم للقوات المسلحة بعد تخرجه. تدرج فى مناصبها. انتدب عام 64 للعمل فى السد العالي. ثم عاد للقوات المسلحة، وصار برتبة مقدم فى الفرقة 19، وتولى قيادة فرع المركبات بالفرقة.


■ لقاء مع الرئيس
جلس الرئيس يستمع للمقدم باقى جيداً. سأله: المضخات التى سنستخدمها، هل لها مواصفات معينة؟
-  مضخات ماصة كابسة. لكنها لا بد أن تكون كبيرة جداً. يجب أن نبحث عن أكبر مضخات فى العالم. وبعد هذا سنحتاج لتجارب وحسابات عديدة لنعرف كم من الوقت ستحتاج الثغرة الواحدة، وكم مضخة تحتاجها كل ثغرة، وكم رجلاً سيعملون على كل مضخة. لا بد أن نعرف أيضاً حجم كل ثغرة نريد فتحها. وكم ثغرة سيحتاجها الجيش للعبور، وفى ضوء هذه الحسابات يتحدد كل شيء.
- عظيم. ابدأوا فوراً التجارب والحسابات.
وبدأت التجارب والحسابات، إلا أن عبد الناصر مات فى سبتمبر 1970، وهدأت الأمور قليلاً، حتى جاء الشاذلى رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة المصرية.
■ الشاذلى يدخل الساحة
كان الشاذلى مشغولاً بموضوع فتح الثغرات فى خط بارليف. علم بأن ثمة فكرة لاستخدام الماء فى تجريف الخط الحصين. اتصل باللواء جمال قائد سلاح المهندسين. طلب منه أن يرى تجربة على الطبيعة. وفى شهر يونيو 1971 شهد الفريق الشاذلى تجربة حية لإزالة ساتر ترابى باستخدام مدافع الماء. قال الشاذلى لقائد سلاح المهندسين: تحياتى يا سيادة اللواء لصاحب هذه الفكرة المدهشة ولكل من ساهم فى تنفيذها.
- وتحيات سلاح المهندسين كله لسيادتك. المهم أن تنفيذ هذه الفكرة يحتاج لشراء مضخات معينة من خارج مصر، لأن العملية ليست هينة، والوقت المتاح لفتح الثغرات لن يكون طويلاً، خصوصاً أن قواتنا ستكون تحت نيران العدو.
- اكتب لى مذكرة بالمضخات المطلوبة، وأين توجد، وسأتولى الأمر.
وكتب اللواء جمال المذكرة المطلوبة. قال فيها إن أفضل المضخات حالياً هى المضخات الإنجليزية، لأن المضخة الواحدة تستطيع إزالة 78 متراً مكعباً خلال ساعة من الوقت. وبالفعل تم شراء ثلاثمائة مضخة إنجليزية، وبدأ التدريب عليها. خلال التدريبات جاء قائد سلاح المهندسين لمقابلة الفريق الشاذلي. سأله الشاذلي: خيراً يا سيادة اللواء.
- تمكن الألمان من اختراع مضخة عملاقة تعمل بمحركات نفاثة، ويمكنها تجريف 240 متراً فى الساعة، أى أنها أقوى من المضخات الإنجليزية ثلاث مرات. نريد هذه المضخات.
- أخشى أن نلفت نظر الإسرائيليين لو اشترينا هذه المضخات بأعداد كبيرة.
- والعمل؟
- كل مشكلة لها حل. سنشترى المضخات المطلوبة بإذن الله.
تم شراء المضخات عن طريق ليبيا، على أساس أنها ستسخدم فى حفر النهر الصناعى العظيم الذى أنشأه القذافي. وصار الأمر بيد سلاح المهندسين. وقبيل الحرب قام المهندسون بإجراء تجربة حية فى منطقة جزيرة البلاح بالبحر الأحمر. فى بيئة مشابهة تماماً للبيئة الحقيقية، ونجحت التجربة.
■ الملحمة
فى السادس من أكتوبر عبر المهندسون الذين سيفتحون الثغرات فى قواربهم مع الفوج الأول، وبدأوا فى فتح الثغرات الساعة الثانية تقريباً، وفى الساعة السادسة كانت الفتحة الأولى قد تمت، وفى الساعة العاشرة مساءً كان عدد الثغرات التى فتحها المهندسون ستين فتحة. وعبرت قواتنا من هذه الفتحات بأعداد هائلة، فى وقت أدهش العدو.
على الشاطئ الشرقى للقناة وقف المقدم باقى زكى يوسف يشاهد فكرته تتحقق والقوات تعبر. ابتسم وحمد الله أن ألهمه هذه الفكرة التى جعلت حلم المصريين بالعبور حقيقة.
بعد النصر طلب المقدم باقى زكى يوسف تسجيل الفكرة باسمه ليحتفظ بحقه الأدبي، فاتصل به اللواء سعد زغلول عبد الكريم ليقول له: أنا النهارده بامضى إمضاء من أشرف إمضاءاتى العسكرية.
- يا افندم لو ماكنتش حضرتك سمعت الفكرة ودعمتها واديتها ثقتك ماكانتش اتنفذت.
- لا يا ابنى ما تقولش كده. انت اديتنا الطفاشة اللى فتحنا بيها بوابة مصر.
وسجلت الفكرة باسم «باقى زكى يوسف».
■ التكريم
كرم باقى عدة مرات.
- منحه السادات نوط الجمهورية العسكرى من الدرجة الأولى 1974
- منحه مبارك وسام الجمهورية من الطبقة الثانية 1984
- وكرمه السيسى عام 2018.
لكن أهم من كل هذه التكريمات التكريم الذى منحه له الشعب المصرى.
■ جنود مجهولون
هناك عمل عظيم لم يذكر أحد أسماء الرجال الذين قاموا به، مع أنه لولا هؤلاء الجنود  ما تم العبور العظيم بالسلاسة التى تم بها. إنهم الرجال الذين تغلبوا على أنابيب المواد الحارقة  التى أعدتها إسرائيل لتشعل بها القناة لو حاولنا العبور.
كان هذا الموت السائل معبأ فى خزانات، سعة الواحد منها مائتا طن، وكل خزان منها مزود بأنبوبة كبيرة نهايتها فى مياه القناة، بحيث تقذف بالسائل المشتعل عند اللزوم فتحيل سطح القناة إلى جهنم تشوى كل من يقترب منها. وكانت هذه الأنابيب تظهر للمصريين بالعين المجردة عندما ينحسر الماء أثناء عمليات المد والجزر.


فكر المصريون كيف يتغلبون عليها، واقترحوا عدة اقتراحات، تكفلت بالموضوع. حددت مكان الخزانات، ومكان الأنابيب، ومكان وسائل الإشعال والتحكم، وفى ليلة 5/6 أكتوبر عبرت مجموعة من الرجال الأشداء القناة تحت ستر الظلام، فأغلقوا فتحات الأنابيب، وعطلوا هذه الوسيلة. وفى يوم 6 أكتوبر عبرت المجموعة مرة ثانية لتتأكد أن العدو لم يكتشف الأمر، وكانت إسرائيل قد أرسلت بعض المهندسين العسكريين ليروا سبب عدم تشغيل النيران، فقام الرجال المصريون بأَسْرهم.


وهكذا تم العبور دون أن تمس النيران جندياً واحداً.
■ الخلاصة
لقد قام المصريون بصنع المعجزات، وتمكنوا من العبور العظيم، وأزالوا العدوان البغيض الذى وقع فى الخامس من يونيو 67.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة