مرايا الأزمنة: أنت مصرى أيها الرجل
مرايا الأزمنة: أنت مصرى أيها الرجل


مرايا الأزمنة: أنت مصري أيها الرجل

أخبار الأدب

الخميس، 15 يونيو 2023 - 03:17 م

كتب : عاطف محمد عبد المجيد

يفتتح أنور العنسى الطبعة الثانية المزيدة من كتابه «مرايا الأزمنة» الصادرة حديثًا عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة قائلًا: تشردنى فى المنافى بلادى، وأنا لبلادى بلاد!، مشيرًا، فى مقدمته، إلى أن هذه الطبعة الجديدة تتبدى له وكأنها كتاب جديد، بعد أن توقف عند مراجعتها أمام ملاحظات نقادها وقرائها، آخذًا إياها بعين الحسبان وبنظرة اعتبار إلى ما أضافته، وذلك قبل الإقدام على مغامرة جديدة لوضعها فى صيغتها النهائية بين يدى قارئها الكريم.


العنسى يشير كذلك إلى أن الطبعة الأولى من كتابه هذا قد صدرت متزامنة مع ثورات الربيع العربى، وقد حذفت دار النشر ما يقرب من ثلاثين صفحة مخضعة الكتاب لما وصفته بمعايير الطبعة الخليجية، مؤكدًا أن الكتاب قد تحرر، فى طبعته الثانية ، من القيود والغصص التى رافقت طبعته الأولى ليتقدم إلى أفق أرحب فى استخدام اللغة بتقنيات تتجاوز المألوف فى الكتابة السردية دون تعديل فى جوهر ودرجة حرارة النص عند كتابته، أو إخلال بمبنى ومعنى مشروعه الأول الناجز قبل نحو عقد من الزمن.

اقرأ ايضاً | ماكوناييما.. بطل بلا شخصية


هنا يمنح الكاتب قارئه الحق فى استقراء هذه المادة كما يشاء، سواء بوصفها تقريرًا انطباعيًّا صرفًا لحياة متقلبة عاشها بإخلاص فى أماكن وأزمنة متبدلة، أو أن يجد فيها تشخيصًا لجغرافيا ثقافية واجتماعية توالت على تاريخ شخصى متوتر ومأزوم لإنسان كانت آلام الغربة ومشاق الترحال أروع ملذات التجلى والاكتشاف لديه.


فى مرايا الأزمنة يكتب أنور العنسى عن اليمن أبجدية الحلم وفاتحة التجلي، عن لقاء الأشتات مدن المشرق والمغرب، عن مجاهل أفريقيا حقائق ومفارقات، عن أيقونات الغرب الآسيوي، عن شرق آسيا، عن عنفوان التفوق الأمريكي، عن أوروبا من ربيع الشعر حتى خريف العمر.


صراعات قبلية
حين يتحدث العنسى عن القاهرة يفرق بين قاهرتين: قاهرة النهار حيث الزحام وضجيج البشر، وقاهرة الليل التى يحبها بنيلها الساحر العملاق، ذاكرًا أن مصر كانت فصلًا خاصًّا فى مدرسة الحياة، قاصدًا حياته وحياة آخرين كثيرين من حوله.

وكانت زيارتها مرة فى العام سُنة وعلامة رشد حاسمة وشهادة معرفة مهمة بالنسبة لجيله، فيما يكتب عن قريته قائلًا إنه أفاق هناك مبكرًا على أزلية العلاقة بين الإنسان والأرض والحياة، وانشغل بأول أسئلة الوجود، كما اصطلى بكيمياء العشق وتعرف إلى ماهية الشعر الذى يتشكل على نحو خاص عبر إعادة تركيب مفردات اللغة، بطريقة ما خلاقة ومختلفة، مشيرًا كذلك إلى أنه أخذ يعى ما هى الحرب وما الذى تعنيه فى تاريخ التاريخ والأرض والبشر، بعد أن رأى الغزاة وهم ينهبون كل شىء من القرى ويضرمون النيران فى المنازل.


هنا نعرف أن معرفة الله كانت هاجسًا مُلحًا عند العنسى فى مرحلة طفولته، وظل كثيرًا يبحث عن إجابات لأسئلته التى كانت تؤرقه، مؤكدًا أن هناك حالة عشق بينه وبين صنعاء، غامضة حد الوضوح، وواضحة حتى الغموض، لا قدرة للغة ولا للبكاء ولا حتى للجنون، على تفسير وهجها وحميميتها، ذاكرًا أن الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر قال إن صنعاء واليمن كله أكبر متحف يمكن التجول فيه بالسيارة، قائلًا بحسرة إن صنعاء تكابد اليوم كل تفاهات جهلة الداخل الذين لم يتعلموا فن قراءة تاريخها، أو من قبل سفهاء الخارج الحاقدين، فقراء الخيال، الغيورين منها، الذين لم يتمكنوا من فهْم دورها هذا فى التاريخ.


فى حديث العنسى عن عدن يقول إنه لم يعش كثيرًا فى عدن، غير أن هذه المدينة تسكن داخله، تقيم ملكوتها وتكتب أساطيرها فى مناخات روحه كيفما تشاء، ذاكرًا أنه يحز فى نفسه أن تدفع عدن اليوم ثمنًا لصراعات قبلية ومحلية وإقليمية لا دخل لها بها، ولا تحمل أى معنى لها أو حتى لغيرها سوى العدمية والجنون، مؤكدًا أن أجمل المدن تلك التى لا تزال تحتفظ بأول حجر لأول بيت بُنى عليها.

وأن أروع اللغات تلك التى لا تزال تعيد اكتشافها لأقدم حرف فى الأبجدية، متعجبًا ما أوسع الكون، وما أكبر الزمن، وما أصغر الإنسان، ذاكرًا أننا نحن البشر لسنا اكثر من تاريخ لكائنات صغيرة يعظم ثم يندثر، ينهض ويزدهر ثم يموت، لكن الكون يظل ملكوتًا والزمن يبقى للأبد غامضًا بلا أفق أو حدود.


فضاء من الألم
العنسى الذى يذكر هنا أنه، فى كل مكان ذهب إليه، كان دائمًا ما يـتأمل وجوه كل الناس، لهجاتهم، عاداتهم، طعامهم، ثيابهم، أساليب تعاملهم البينية ومع الآخر القادم الغريب، مؤكدًا كذلك أن الوطن ليس حجرًا نقدسه، لكنه حين يتبدى نقشًا على حجر نابض بالحكمة، وحين يتجلى فى مجسم أثرى لهيئة ملك حكيم عظيم، أو وجه سبئى من زمن غابر، فإن ذلك يعنى أن هذا هو ما تبقى من عناوين أسطورة إنسان هذه الأرض، وما ظل فى الوجود من روحه التى لا تزال، وستظل تسرى إلى الأبد.


الكاتب الذى يقول هنا إنه كان يعرف أن متاحف أوروبية عديدة تحتوى على قطع أثرية يمنية كثيرة، يعلن عدم توقعه أن يكون بعض تلك القطع معروضًا فى دكاكين أوروبية بأبخس الأثمان، متذكرًا مقولة المفكر المصرى الراحل يحيى الجمل: لو لم ينصب الفرنسيون مسلة الأقصر على ساحة الكونكورد فى قلب باريس، لما كان أحد قد علم عنها شيئًا، متأسفًا أنه إذا كان بعض المسئولين فى زمن السلم يبيعون الآثار لجهلهم بأهميتها التاريخية، فإن بعض المسئولين فى زمن الحرب يبيعون أنفسهم وأوطانهم، وليس فقط آثار بلادهم.


أما حين يكتب عن قرطبة فيقول إنه يسكنه فضاء من الألم، وتستوطنه كآبات لا حدود لها، وكان يمكنه أن يكون ذلك العربى الأول الذى كان سيد هذه الأرض ومبدع وجه الحياة عليها، لكنه ولد وارثًا هزائم العربى الخير، وعليه أن يدفع فواتير هزائمه وانكساراته، كما يكتب عن بيروت، الكويت، بغداد، تونس، الجزائر، الدار البيضاء، الخرطوم، قائلًا فى النهاية: كلما عاتبت مصر على تردى أحوالها العامة وتراجع دورها الريادى عربيًّا وقاريًّا ودوليًّا أقول لنفسي: لو لم تكن مصر مصرًا، مَن كان بوسعه أن يعلمنى وحدى على الأقل معنى أن أكون؟ أنت مصرى أيها الرجل وهذا امتيازك!  

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة