صورة موضوعية
صورة موضوعية


من متون الأهرام إلى الرواية المصرية الحديثة

«أدب القرافة».. ورحلة تقديس الموت!

آخر ساعة

الجمعة، 07 يوليه 2023 - 03:13 م

■ كتب: حسن حافظ

تقفز جينات المصريين الحضارية فى وجهك عند الحديث عن الموت. هناك ميراث منذ عصور المصري القديم تم تمريرها عبر المصري المسيحي والمسلم حتى وصلت إلى العصر الحديث، فهناك احتفاء مصري بالموت وتقديس له وعوالمه تجلى بالاهتمام الفائق بالمقابر والجبّانات، وحتى الأهرامات التى شيدها الفراعنة وتعد إحدى عجائب الدنيا هى فى واحدة من صورها مقابر لملوكهم الذين قدسوا الموت وآمنوا بالانتقال إلى حياة أبدية بعد مغادرة الدنيا، والأمر كذلك فى المناسبات والأعياد الدينية، يحرص المصريون على زيارة قبور أحبائهم مِمَن ودعوا الحياة،.. يقرأون لهم الفاتحة ويدعون لهم بالرحمة والمغفرة، كجزء من اكتمال فرحة العيد بلقاء كل الأحبة بمن فيهم الراحلون.

◄ كتب المزارات.. فكرة مصرية فريدة لا مثيل لها في العالم

ولم يكن غريبًا أن نجد أدبًا مرتبطًا بالجبانة المصرية منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث، من عصر النصوص الدينية فى مصر القديمة وصولًا إلى أدب زيارة المقابر فى العصر الإسلامي، ثم تطويع الحالة المصرية فى الرواية الحديثة، وفى كل هذا يبدو الطابع المصري حاضرًا بقوة ومعبرًا عن مزاج شعبى خالص استمر رغم مرور القرون وتبدل الثقافات وتغيُّر الأحوال.

كتابة المصريين عن الموت قديمة قدم متون الأهرام ونصوص كتاب الموتى التى تسرد التعاويذ المستخدمة لحماية جسد المتوفي، ورحلة الأخير فى العالم الآخر، وهو ما يكشف علاقة قديمة جمعت المصري بالموت، لذا احتل الأخير مكانة بارزة فى الأدب المصري على الدوام، فعندما دخل الإسلام مصر وأصبحت جبانات الفسطاط ثم القاهرة فى المنطقة الملاصقة لجبل المقطم أصبح هناك أدب يتعلق بهذه الجبانات التى عرفت باسم «القرافة»، نسبة إلى قبيلة يمنية استقرت فى المكان الذى نشأت فيه المقابر ونمت قبل نحو 1400 عام، فاستمرت عادة زيارة الجبانات خصوصًا فى القرافة بحثًا عن الحصول على البركة بالدعاء أمام مقابر لشخصيات يعتقد فى صلاحهم وولايتهم، واتخاذهم وسيلة إلى الله فى إجابة الدعاء أو قضاء الحوائج، خصوصًا مشاهد آل البيت والرموز الصوفية.

◄ يحرص المصريون على زيارة قبور الأحبة الراحلين فى الأعياد الدينية

◄ زيارة الجبانات
وعن سبب اهتمام المصريين بالقرافة، يقول الدكتور محمود محمد جاد فى كتابه (سكني المقابر فى عاصمة مصر: نظرة عبر العصور)، إن التصور الشعبي للمصريين خلق اعتقادًا راسخًا لديهم بأن «العون قد يأتى أحيانًا من الموتى المقربين إلى آل رسول الله، والعارفين بالله والأسياد، وبعض كبار المشايخ، ولذلك فإنهم يرتبطون بهم، وينذرون لهم النذور، ويقدمونها لهم توخّيًا لرضاهم ومساعدتهم فى قضاء حوائجهم الدنيوية.

وفى حالة عدم قدرة هؤلاء الناس على ذلك، أى على نذر النذور وتقديمها لهؤلاء الأسياد والعارفين بالله، فإنهم يرسلون إليهم بالرسائل التى تحمل صيحات الاستجداء والرجاء بالمساعدة فى تحقيق الأمانى والرغبات الدنيوية»، وهو يشير بذلك إلى عادة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي والذى خصص له عالم الاجتماع الرائد سيد عويس دراسة اجتماعية مهمة فى بابها، من كل هذا التراث الشعبي تولدت عادة زيارة جبانات القاهرة.

وإزاء هذا الاهتمام المصري بزيارة المقابر التى أخذت فى الاتساع لتشغل مساحات كبيرة، ظهرت الحاجة لكتب إرشادية تتيح للزائر كيفية الوصول إلى القبور التى يريد زيارتها دون أن يضيع فى غابة المقابر، لذا جاءت فكرة مصرية خالصة وهى كتب المزارات أو الزيارات، والتى تعتبر فكرة من نسيج العقل المصري إذ لم توجد هذه النوعية من الكتب إلا فى مصر، وعبرت عن فن أدبى فى الكتابة التاريخية يعبر عن الخصوصية المصرية، وتقوم فكرة هذه الكتب المبتكرة على وصف يشبه كتب الدليل السياحي، الذى يحدد انطلاقًا من نقطة بداية تكون عادة مشهد السيدة نفيسة ثم يرسم بالكلمات المسار الذي يمشى فيه الزائر وصولا إلى القبور والمشاهد والأضرحة التى يستحب عندها الدعاء.

ورصد الباحث يوسف راغب فى بحث منشور بدورية حوليات إسلامية سنة 1973، كتب المزارات الخاصة بجبانات القاهرة فوجد أنها بلغت 21 مؤلفا فقد القسم الأكبر منها، أما النصوص التى وصلتنا فيعود أقدم نص لكتب المزارات منها إلى العصر الأيوبي، وهو كتاب «الدر المنظم فى زيارة الجبل المنظم» لموفق الدين بن عثمان الشارعي المتوفي سنة 615هـ/ 1218م، ثم «مصباح الدياجى وغوث الراجى وكهف اللاجى مما جمع للجناب التاجي» لمجد الدين أبى عبدالله محمد بن عبدالله بن عين الفضلاء، المتوفى بعد سنة 696هـ/1297م، وجزء من كتاب «مهذب الطالبين إلى قبور الصالحين» لابن الجباس المتوفى بعد سنة 736هـ/1336م، و»الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة» لشمس الدين محمد بن الزيات المتوفى سنة 814هـ/1441م، و»تحفة الأحباب وبُغية الطلاب فى الخطط والمزارات والتراجم والبقاع المباركات» لنور الدين على بن أحمد السخاوى الحنفي، المتوفى سنة 887هـ/ 1482م، و»زهر البساتين فى المدفونين بقرافتى مصر وترب القاهرة من المحدثين» لمحمد بن شعيب الشعيبى المتوفى بعد سنة 1030هـ/ 1621م، و»الكوكب السيار إلى قبور الأبرار» لعلى بن جوهر السكرى المتوفى سنة 1200هـ/ 1786م.

◄ نجيب محفوظ أدخل القرافة عالم الأدب الواسع من بوابة «حكايات حارتنا»

 الرواية والقرافة
ومع العصر الحديث انتقل الاهتمام بالقرافة إلى فن جديد، وهو فن الرواية والقصة القصيرة، إذ أصبحت القرافة وجبانات القاهرة عمومًا مسرحًا للكثير من أحداث الروايات والقصص التى كتبها كبار المبدعين المصريين، ويتقدمهم بلا شك نجيب محفوظ، الذى عاش فى حى الجمالية بالقرب من مقابر باب النصر الممتدة صوب جبل المقطم، لذا كان حضور القرافة مكثفًا فى أدب نجيب محفوظ، فالكثير من معارك فتوات رواياته كانت تدور فى القرافة، وكذلك بعض أحداث ملحمة (الحرافيش)، كما يطل بيت «نور» فى رواية (اللص والكلاب) على القرافة، كما حضرت الأخيرة بقوة وجلاء فى عمله الأدبى (حكايات حارتنا)، وهى مبنية على عدد من الحكايات التى تدور فى حارة مصرية تبدو انعكاسًا لمشاهد من حياة نجيب محفوظ نفسه وقد أعاد صياغتها فى شكل أدبي.

نجد الذكرى الأولى لنجيب محفوظ فى الحكاية رقم (8) من (حكايات حارتنا)، يتحدث عنها عندما كان طفلا، يقول: «مراسم القرافة تُعد من أسعد أيامى البهيجة. نشرع فى الاستعداد لها مع العشى بإعداد الفطير والتمر، وفى الصباح الباكر أمضى بين أبى وأمى حاملًا الخوص والريحان، تتقدمنا الخادمة بسلة الرحمة... أعرف باب الحوش كصديق قديم، ويجذبنى القبر بتركيبه الوقور المنعزل، وشاهديه الشامخين، وسره المنطوي، وبإجلال والدى له، كما تجذبنى شجيرة الصبار، وتحت قبة السماء تنطلق منى وثبات فرح، ودفقات استطلاع لا يُكدرها شيء، ثم تتم المسرات بمراقبة المقرئ الضرير، وجماعات الشحاذين المتكالبين على الرحمة». فى هذا النص الجامع يسرد محفوظ كل عادات المصريين فى التعامل والتعاطى مع القرافة من إعداد المخبوزات التى ستوزع «رحمة ونور» على روح الميت تحت مسمى «الرحمة»، أو أجواء زيارة الحوش نفسه المعد لاستقبال الأحياء بجوار قبور الأموات، ثم نجد ذكر القرافة يتردد فى الحكايات وصولا إلى الحكاية رقم (35)، والتى يزور فيها راوى الحكايات  حوش الأسرة فى موسم القرافة وهو عادة ما يكون فى وقت المناسبات الدينية، ليلاحظ وجود مقيم دائم فى أحد الأحواش بعدما فقد ابنه ثم بنته، فيقرر البقاء بجوارهما حتى تحين لحظته.

◄ اقرأ أيضًا | عادل حمودة: إحسان عبدالقدوس رقم صعب في الصحافة المصرية

◄ المجاورين
وتعرض إحسان عبدالقدوس لموضوع القرافة فى قصته القصيرة (أنا لا أكذب ولكنى أتجمل)، ضمن مجموعته (الهزيمة كان اسمها فاطمة)، ففى هذه القصة يعرض الراوى لقصة إبراهيم ابن قرافة المجاورين والذى يعمل والده كحارس لمقبرة، ويحاول أن يكافح هو أسرته فى ضمان حياة كريمة بعدما صدق شعارات ثورة يوليو حول تحقيق العدالة الاجتماعية، ويقع فى حب زميلته فى الجامعة خيرية ابنة الأستاذ الجامعي، وتبادله هى نفس المشاعر، لكن الشاب المكافح المتفوق دراسيا يفشل فى محاربة تقاليد وعادات المجتمع فيحاول إخفاء أصله ووضعه الاجتماعي، كمحاولة للتجمل أمام حبيبته لكن الانتماء لسكنى المقابر تقضى على علاقتهما، وهنا يلفت عبدالقدوس النظر إلى ظاهرة سكنى المقابر، ونظرة المجتمع لساكنى المقابر، وهو يحمل نقداً مريراً لنظرة المجتمع الذى ينظر إلى أهالى المقابر باعتبارهم أقل منهم، ليكشف عن زيف قيم المجتمع.

◄ خيري شلبي عاش فى القرافة وكتب عن عوالمها فى «نسف الأدمغة» و«بطن البقرة»

 شلبي في المقابر
واستلم خيري شلبي مشعل الحديث عن القرافة وتوظيفها أدبيًا من جيل نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، وعاش شلبي فترة طويلة فى القرافة إذ استأجر حوشًا وأقام فيه لفترة بين المقابر، وقدم مجموعة من النصوص التى تدور فى القرافة، كما نجد الجبانات بطلة فى روايته كما فعل فى روايته (بطن البقرة) التى أطلق عليها مصطلح (الجغرواية) أى الرواية الجغرافية، والتى يحكى فيها قصة ثلاثة أحياء بالقاهرة ويركز فيها على الحديث عن القرافة بصورة كبيرة وواضحة، ثم يعود ويقدم رواية (نسف الأدمغة) التى تدور حول صحفى يبحث عن أفكار جديدة لمشروعاته الأدبية فيجد غايته فى تأجير حوش بين المقابر، فى لحظة تاريخية تتمثل فى شق الدولة لطريق الأتوستراد ليكون شاهدا على تحولات المجتمع المصرى فى كل طبقاته التى يحتك بها بطل الرواية من خلال نافذة المقابر حيث يكتشف أن القرافة لها عالمها الخاص.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة