محمود قرنى
محمود قرنى


محمد سليم شوشة يكتب : محمود قرنى... الاستغراق فى رموز الشرق وتاريخه

أخبار الأدب

الثلاثاء، 11 يوليه 2023 - 02:11 م

على مدار تجربته الشعرية الغنية تتحدد ملامح هذه التجربة، وتحدد مصادر خصوصيتها واختلافها ودعائم تحققها وتميزها الكبير، وهى لاشك تجربة تتسم بالطابع الإنسانى والوعى الثقافى الكبير ويبدو حجم ما وراءها من الاطلاع والشغف المعرفي، ومقدار النزوع إلى الخير والجمال والإيمان بالإنسان والركض وراء النموذج المثالى والاكتمال الذى استشعر الشاعر أنه لا يتحقق إلا بالموت، وبغير الموت فلا يوجد إلا النقص. وهو شاعر بحق يبدو عبر مسيرته وامتداد تجربته مرهفا يتنصت لهمس العالم ويرهف السمع لما يمور فى بطون الكتب كما يحاول قراءة البشر واستشعار ما يموج بداخلهم. 

ولخطاب محمود قرنى الشعرى عدد من السمات والملامح التى يمكن أن تصلح مدخلا لاستشعار قدر ما بتجربته من الجمال والتفرد والخصوصية، وأول هذه السمات أنه واحد من أبرز الشعراء المصريين الموظفين للدراما أو يمكن القول بأن الشعرية لديه تتجلى فى أبعاد درامية وبخاصة السمت أو الطابع الحوارى الغيري/أى المنفصل عن الذات الشاعرة، ولذا فإن الناظر فى دواوينه يملس تجليا بارزا لظاهرة الحوار والجُمل الحوارية التناوبية بين طرفين، التى تبدو أقرب لحال من المبارزة الفكرية أو المباراة التى تختزل صراع البقاء وكثير من الصراعات الوجودية بين الكائنات.

والأكثر طرافة أن الشاعر أحيانا ما يجعل هذه الحوارات على لسان بعض الحيوانات، وأتصور أنه فى مجمل دواوينه يعد واحدا من أبرز الشعراء المصريين الذين أجادوا توظيف الحيوان، أو يمكن القول بأنه كان صاحب موقف مختلف من الحيوان والإحساس به ضمن منظومة بناء الكون أو ضمن عناصره، ليس لمجرد مثلا أنه فى أحد دواوينه تجلى تأثره ببيدبا فيلسوف الهند صاحب كليلة ودمنة، ولكن لأنه باستمرار كان صاحب موقف شعرى وإحساس خاص تجاه الحيوانات والطيور وما وراءها كلها من طاقات رمزية شعرية، فيشعر بحركة الحيوانات فى الصحراء وبخاصة الجمل الذى يستمد منه كثيرا من صوره الشعرية الطريفة.

وأيضا طيور الأم وحيواناتها فى الأرياف، وبالطبع ربما يكون هذا الموقف الشعرى أو تلك الحساسية تجاه الحيوانات مؤسسة على النشأة الريفية فى إحدى قرى الفيوم بمثل ما تتأسس على شغفه بالقراءة فى تراث الشرق عموما والشعر العربى القديم بشكل خاص. 


واتصالا بهذا السمت الحوارى فهو شاعر بالأساس يتجلى العالم لديه فى الصور الحركية والدرامية، بمعنى أن القصيدة لديه نموذج سردى ودرامى بامتياز ولا تعبر عن حالات سكونية باطنية أو ماورائية أو مجردة، بل دائما ما يجعل الحال الشعرية متجسدة فى موقف أو فى حال درامية حتى ولو مستمدة من التاريخ، بل هو بالأساس شاعر ذو موقف مختلف من التاريخ، فيمكن ملاحظة أن التاريخ لديه أقرب لأن يكون مخزنا للحالات الإنسانية القابلة للتأمل والإسقاط الشعرى وخلق الوسيط الذى تتجلى فيه الحال الشعرية الراهنة، فيكون دائما فى نصوصه تجليان؛ تجلٍ أول للحاضر أو الراهن بصورة غير مباشرة تتمثل فى صوت الشاعر وسيرورته الرمزية ولغته التى أحيانا ما تكسر اللغة القديمة بمفردة عصرية تماما؛ وتجلٍ ثانٍ للماضى بصورته الدرامية المستعادة وأحداثه القديمة التى ينصب عليها التأمل وتتجسد فيها مادة القصيدة وظاهرها.

وكل ما هو قديم قابل لديه لأن يكون مجالا للشعرية ومجالا لاتخاذ موقف إنسانى مشحون بروح الشعرية وانحيازاتها القائمة على نوع من الاستبصار الإنسانى والمعرفي. ولا يقف فى قراءته للتاريخ على ما هو حقيقى مثل الرموز والشخصيات الشهيرة مثل طاغور شاعر الهند العظيم أو جوته وبرتولد بريخت شاعرى ألمانيا، ولكنه كذلك أحيانا ما يصنع نموذجا تاريخيا خاصا به مثل شخصية ورد الأكمام أو أسماء بنت عيسى الدمشقية.


هنا نحن أمام شعرية أقرب لأن تكون صاحبة موقف مسرحى من التاريخ إن جاز التعبير، ولكنه موقف مسرحى يتجلى بصورة غير مباشرة، وبدلا من أن ينتج مسرحا شعريا، ينتج قصائد أقرب لفصول مسرحية تاريخية مختزلة ومكثفة، وهذا متحقق لديه فى كثير من دواوينه وبخاصة ديوان لعنات مشرقية وتحديدا شخصية ورد الأكمام التى أنتجها فى ضوء شخصية الورد فى الأكمام التى هى إحدى شخصيات ألف ليلة وليلة، والأمر نفسه نجده فى موقفه من شخصيات الثورة العرابية ورجالها حين يستعيدها ويحاول مقاربتها وقراءتها شعريا عبر هذا النمط أو ذلك التشكيل الشعرى القائم على المسرحة التاريخية. ولهذا التشكيل السردى والدرامى فإن القارئ فى شعر محمود قرنى يشعر أنه فى رحلة عبر التاريخ، يتجول فى الحضارات ويعايش نماذج إنسانية مختلفة بين الشرق والغرب ويصاحب فى تلك الرحلة ذات شاعرة متأملة، تحاول إعادة قراءة التاريخ عبر بشر آخرين أو عبر أنماط ونماذج إنسانية يتم انتقاؤها بعناية شديدة. والانتقاء بذاته وراءه نسق ثقافى ما فى الكشف عنه فوائد عظيمة، فهو فى تقديرنا يذهب فى انتقائه للشخصيات التاريخية التى يكتب عنها إما لنموذج غرائبى صاحب مصير مأساوى أو نموذج تاريخى صادم أو فى حياته تكمن مفارقة إنسانية من نوع ما أو نموذج يكون فى غاية الجمال والاندفاع نحو المثالية الفنية كما هو حاصل لدى بورخيس وطاغور وبريخت على سبيل التمثيل.


وهكذا عبر هذا التشكيل الشعرى المختلف أو صاحب الموقف المغاير من العالم فى تمركز الذات بإزاء هذا العالم يعمد الشاعر إلى تقنية الإسقاط أو تقنية الموضوعية والانفلات من الذاتية الخالصة التى تجعل الشاعر محاصرا بالتعبير عن نفسه فقط ليتسع فى معالجته الشعرية وفى إحساسه بالعالم باتساع هذا العالم وتراميه عبر المكان والزمان، فلا يكون محاصرا بوقت أو بعصر أو بحضارة أو بنموذج أو ثقافة أو لغة، بل كأنما آمن بوحدة الإنسان واستمرار نموذجه الجمالى وبفكرة العود الأبدى التى تحضر ظلالها فى بعض قصائده. 


وينتج عن هذا التشكيل أن الذات الشاعرة تتموضع وتتمركز بوصفها عين بصيرة أو عين خبيرة تريد إعادة كتابة التاريخ أو تطمح إلى تدوينه بصورة شعرية، فيبدو محمود قرنى طامحا لكتابة تاريخ العالم بالشعر ويعيد ترتيب أحداثه وفق رؤية الشاعر وضميره أو وفق ميزانه الخاص القائم على الانحياز للجمال والعدل والخير ، يعود محمود قرنى هكذا إلى عصور الاستعمار تحديدا وعصور الصراع الدينى بين الحضارات ويعود إلى نماذج استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولا يبدو فقط منحازا بصورة فطرية للحق والعدل؛ بل يبدو راغبا فى السخرية والتهكم ومشحونا بالشجن والأسى، يجعل من تاريخ العائلة تاريخا للعالم ويجعل من تاريخ أمه وقصته معها تاريخا للعالم أيضا أو تاريخا لمصر فى صورتها المظلومة أو التى جار فيها عليها الزمن وغلبها فيه الأعداء والانتهازيون وكل محتل أو مستغل.

حتى قصيدة النثر حين يعبر عنها أو يحاول تعريفها فى قصيدة يحولها إلى هذا النموذج الممتد أو المتمدد بامتداد الكون لتعبر عن حال من المظلومية الأبدية، ويشحن نصه بالسخرية المرة والتهكم القاسى الشفيف الذى يحتاج المتلقى لأن يكون يقظا ومرهفا بصورة موازية لما لدى الشاعر من الرهافة ليتفاعل مع هذه الصورة والحالات الشعرية. 


يبدأ النص لدى محمود قرنى بسيطا وعفويا ومرتهنا بالواقعى والسلس، ثم تدريجيا ينسل إلى مساحات من المجهول والغرائبى وكأنه يدخل إلى القصيدة بروح مغامر أو مستكشف يتسلل داخل الغابات والأحراش المجهولة.  فى قصيدته عن أمه مثلا يبدأ من لقاء رأته الأم له فى التلفزيون ولم تفهم شيئا من كلامه، ثم حين تراه مبتسما تشعر كأنها فهمت كل شيء، وتدريجيا يعود إلى تاريخ الأم وميلادها وعائلتها فيجعل منها نموذجا تاريخيا أكبر من حدود العلاقة الذاتية الخاصة المقصورة عليهما؛ أى على الأم وابنها، ليجعلها دالة على تاريخ عريض من الاستغلال والاستعمار والطموح، تاريخ من الطبقية والظلم والمعاناة والنضال والحرب بالقلم والثقافة وتحولات السياسة ومنعطفات التاريخ وحركيته أو دراميته الناتجة عن الثورة أو التغيرات فى أنظمة الحكم كما هو المنعطف أو الفاصل بين الملكية والجمهورية. 


ولأن محمود قرنى فى قصائده وتجاربه شاعر حقيقى فهو ليس مشغولا بذاته أو بالحديث عن نفسه بوصفه فردا، بل هو مشغول بالإنسان عموما، يرى نفسه فى الآخرين كما يرى فى نفسه ظلالا لهم أو تجليا مختلفا لهذا الآخر أو ذلك القديم الممتد. لذا فأتصور أن استجلاء وضعية الذات الشاعرة فى نصوصه الشعرية قادر على كشف هذه العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر وكيف أنه كان يرى الآخرين فى ذاته والعكس صحيح.

ولكن هذه الظاهرة كذلك كاشفة ودالة على مجمل التشكيل الجمالى فى خطابه الشعرى إذ يختلف موقع الإنسان من العالم وحضور العالم أو تجلياته باختلاف وضعية هذه الذات الشاعرة أو المشعور بها أو المشعور له إن جازت هذه التسميات، ففى القصائد التاريخية مثلا نجد تجليا خاصا للطبيعة أو للمكان بصورته التاريخية المبهمة أو الغامضة أو غير المأهولة من صحراء ونجوم وجبال وفضاء كونى متسع، فى حين يبدو العالم أضيق قليلا أو محدودا ومحاصرا ببعض القيود حين تكون الذات الشاعرة أو الحديث بضمير الأنا هو المسيطر على القصيدة. وفى القصيدة التى تتمركز فيها الذات الشاعرة بوصفها محورا للتجلى الإنسانى نجد السؤال الواخز حاضرا مثل شوكة مسنونة يعرى حالات من الظلم والأسف العميق على المصير الإنسانى الذى يعكس حالا من العجز الراسخ أمام قوة القدر، على نحو ما نجد فى قوله:
أخذ الطاعون أهلى وهم عرايا
فصادقت الضفادع وأسراب النجوم
ولم أسأل لماذا عشت هكذا
خائفا من أشياء لم أرها
ومع ذلك أواصل الحياة.
فالسؤال هنا حاضر بكل قوته الواخزة أو المؤلمة، ليس لمجرد أنه سؤال عن الظلم الأبدى أو الراسخ أو المتجذر والمنتقل من جيل إلى جيل، بين من يقضى عليهم الموت وهم عرايا حين يختطفهم الطاعون، وبين من يرثون ألم الذكرى ومرّ التذكر، ولكن لأن هذا السؤال بالأساس مكتوم أو ممنوع، فوراءه قوة غامضة تمنعه، فهو بالأساس قال ولم أسأل. والنفى هنا لا ينفى وجود السؤال ذاته، بل ينفى إطلاقه أو خروجه من أعماق النفس نحو مسئول أو ذات يقع عليها التساؤل، فالسؤال قائم ومنطقى وموجود بالقوة داخل هذه النفس التى ورثت ألم الماضى وذكرى أهل أخذهم الطاعون وهم عرايا، ولكنه سؤال ربما لم يجرؤ صاحبه على إطلاقه وهذا أشد وأقسى لأننا فى هذه الحال نكون أمام ذات عاجزة أو مقهورة بما يكفى لتكتم سؤالها أو تحبسه بداخلها. أو لأنها أدركت أن السؤال لن يكون ذا جدوى، والحقيقة أن وراء هذه الصورة الشعرية الكثير وبخاصة إذ ما فككنا ما وراء الكلمات من رموز مكتنزة فى عبارة شعرية مضغوطة. فالعرى هنا دال على تاريخ أكثر قدما من الطاعون الذى اختطفهم، تاريخ من الضعف والهزال والجوع ونقص المناعة وقلة الكرامة وتاريخ من الاستغلال والاستعباد والحياة غير الآدمية. 


وتحضر المفارقة الشعرية فى خطابه بوصفها قوة فارقة وطاقة تعبيرية فائقة دالة على عبقرية توظيف الدراما والصراع بين أطراف مختلفة من البشر المتفاوتين فى القوة والرغبة والوعي، ودالة على عبقرية الاستثمار الجمالى القائم على السرد والمحاكاة ودائما ما تمنح المفارقة لديه نوعا من الترويح والتلطيف والتخفيف من حدة المأساة التى تقاربها القصيدة، بأن تمنح القصيدة ظلالا من التهكم والفكاهة التى تؤنس وحدة المتلقى وتهون عليه ظلال ما تجسد القصيدة من الظلم والأسى والقهر واللامنطقية أو غياب العقل والعدالة، على نحو ما نجد فى قوله:
فى العام الماضى 
مرت من هنا جيوش جرارة
طلبوا منى أن أصطحبهم
إلى الأراضى السوداء
فتشاغلت بمعزة كنت أرعاها
وأرسلت معهم كلبى المدرب ليدلهم على الطريق
وبعد أن أصبحوا أمراء
على الحدائق والغابات
لم ينسوا لى هذا الفضل 
فعينوا الكلب وزيرا للخزانة.
وواضح جدا هنا ما أشرنا إليه من السمت السردى والدرامى السلس أو المعتمد على إنتاج حدث بسيط يرسم المفارقة ويحدد طاقاتها الدالة، فهى مفارقات غير مجانية أو ليست لمجرد الحلية الشكلية، بل هى مفارقة دالة على سقوط العقل وترديه. كما يتضح أيضا علاقة الذات الشاعرة بالحيوانات إذ فى الاقتباسين الشعريين السابقين تتجلى علاقة الذات الشاعرة بالفضاء الكونى باتساعه على نحو ما نرى مع علاقته بالعنزة التى يرعاها أو مصاحبة الضفادع والنجوم أو العلاقة بذلك الكلب المدرب الذى يتم استغلاله من الآخرين، وتتشكل علاقة الذات الشاعرة بالآخر فى حدود من التباعد إذا ما كان هذا الآخر قرينا بالسلطة أو باحثا عن القوة والمال ويتجاوز حدود الكفاية الإنسانية إلى حدود التملك والرغبة فى الهيمنة على الكون.


أما لغة محمود قرنى وصوره الشعرية فهى باب قائم بذاته وفى غاية الثراء والخصوصية، فهى لغة تبتعد عن التهويمات والغموض وتلتبس بحال من الصراحة والجراءة والوضوح بما يتناسب مع انحيازاته ومواقفه وحجم ما لديه من الاطلاع والمعرفة بالتاريخ أو وعيه بحدود العالم الذى يقاربه شعريا أو يكتب عنه قصيدته، فهو من ذلك النوع من الشعراء الذى لا يكتب إلا عما يحس به ويعرفه بحق، ولا يدخل القصيدة إلا وهو مشحون بحال أكيدة وثقيلة من المشاعر، ويستخدم معجما عربيا خالصا يتراوح بين العصرى والتاريخى المستند إلى قوة القصيدة العمودية ورونقها.

ولذلك كان خطابه الشعرى الأكثر مناسبة وتهيئة لأن يضمن بالأبيات والأشعار من القصائد العربية القديمة والعمودية أو حتى يضمن بنماذج عمودية يخترعها أو خاصة به هو، وصوره ابنه السياق الشعرى الذى يعبر عنه وأتصور أنه واحد من الامتدادات العصرية لمجددى الشعرية العربية القديمة فى أكمل نماذجها مثل أبى نواس والمتنبى الشاعرين العباسيين اللذين يستشعر القارئ ظلالهما فى خطاب محمود قرنى حاضرة بقوة ولكن دون صخب أو إعلان مباشر، بالضبط مثلما تحضر أصوات قديمة أخرى مثل جرير والفرزدق والشاعر الأندلسى ابن زيدون، بالضبط كما تحضر الحضارة العربية والإسلامية القديمة لديه بوصفها مجالا لإعادة القراءة والتأمل والمحاسبة.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة